الصوفية والتصوف: أدابهم فى مساجدهم
مجلة المدينة المنورة السنة 9 العدد 7، 8
2-9 اكتوبر 1936
الآداب فى المساجد مقاصد أهل النفوس الطاهرة وجمال أهل المشاهد العلية، إذ أنها تصدر عن استحضار عظمة رب البيت، وإجلال البيت ممن دخله لأجله سبحانه لصالح العمل فيه وشدة الرغبة فى نيل ما يبتغيه، ولذلك فإن أهل الله الصالحين يسيحون فى الأرض شرقاً وغرباً لزيارة عارف أدبه الله بالآداب المحمدية فى مسجده، ولعلك علمت قوله صلى الله عليه وسلم: (الله فى قبلة أحدكم ما دام فى صلاته)، وعلمت أنه صلى الله عليه وسلم رآى قمامة فى جدار المسجد فغضب حتى احمرت وجنتاه وحتَّها بظفره، وقال صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى فى الحديث القدسى: إن بيوتى فى أرضى المساجد وإن زوارى فيها عمارها، فطوبى لمن تطهر فى بيته وزارنى فى بيتى، وحق على المزور أن يكرم زائره)، وقال صلى الله عليه سلم: (قمامة المسجد مهور الحور العين)، وقال الله تعالى: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) سورة البقرة آية 125وقال تعالى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) سورة النور آية 36-37 الآية وقال سبحانه وتعالى: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) سورة الجن آية 18.
وهذا والمسجد نوعان: مسجد خاص ومسجد جامع، فالخاص ما جعله الإنسان مصلى لنفسه أو له ولخاصين، والمسجد الجامع ما فتحت أبوابه لكل مصلى، ولكل آداب.
آداب المسجد الخاص:
أن يطهره من أن يعصى الله فيه بغفلة أو بغيبة أو بسب أو قذف، وله أن ينتفع فيه بعلم المندوبات والمباحات كالأكل والنوم وإكرام الضيف وصلاة النافلة من غيره فى أوقات حلها ورفع الصوت بالعلم والذكر والصلح بين الناس فى كل وقت، وله أن يمنع من شاء عن دخوله، فإذا ميزه عن غيره فى بيته تمييزاً يجعله خاصاً بالصلوات فالأولى أن يحييه بركعتين وأن لا يجلس فيه جنباً وأن يستحضر عند دخوله أنه بيت الله وأن الله سبحانه حاضر لا يغيب.
ومن آدابه أن يداخله خاشعاً راغباً فرحاً بدخوله، وأن يخرج منه خاشعاً آسفاً عند مفارقته معتقداً أنه لولا الضرورة ما فارق بيت الله ويكون من الذين تعلقت قلوبهم بالمساجد، وإذا دخل المسجد أكثر ذكر الله وتسبيحه سبحانه وقراءة كلامه العزيز واشتغل إما بذكر أو إبتهال أو تنفل بصلاة.
هذه كانت آدابهم رضى الله عنهم فى مساجدهم الخاصة، وقد كان الرجل منهم يجعل له مسجداً خاصاً بنفسه يكره أن يجلس معه غيره ليفر قلبه من الهم بغير الله ويقبل بكليته على الله، وقد غلب بعضهم أن يسمى هذا المسجد خلوة، وجهل الناس فى زمانناً هذا سر ذلك فصار يجعل الرجل منهم لنفسه حجرة ويسميها خلوة ويدخل فيها فيترك ما أباحه الله من الطيبات وما أوجبه الله عليه من السعى فى طلب العلم أو الرزق أو عمل بر أو صلة، ويجلس فيتلو كلمات ربما لا يفقه لها معنى فتكون خلوته هذه تخلياً عن الواجب والسنة وعملاً بما أورده على نفسه من نفسه، ولم يكن السلف الصالح يعملون هذا ولكنهم رضى الله عنهم كان الرجل يجعل له حجرة فيسميها مسجداً ويدخلها بعد أن يكون قد استوفى ما هو واجب عليه من طلب العلم ومن البر والصلة ومن نفقة الوالدين أو أهل أو أولاد فيدخل ويصرف أنفاسه فى تلاوة القرآن الكريم والركوع والسجود ويبتهل إلى الله أن يزكى نفسه ويطهرها، وتنكشف له حكمة السجود والركوع وأسرار كلام الله تعالى ويتجلى ربه سبحانه وتعالى لنفسه فى نفسه وله فى حكمه العزيز، فتجتمع همومه كلها وتصير هماً واحداً يجذبه حتى يرى ربه سبحانه وتعالى، وقد تكون المساجد الخاصة لحبس النفس عن شهوتها تأديباً لها أو لقهرها على التوبة والإنابة إلى الله أو لمجاهدتها ورياضتها لتطيعه وتستجيب لله سبحانه وتعالى، فكلما صرف نفساً من أنفاسه فى مسجده الخاص كوشف بأنوار عزةٍ وأسرار جبروت وورد عليه قبس من مشكاة الأنوار القدسية فووجه بعظمةٍ وكبرياءٍ وجلالً فتحقق بحقيقة عبد وتجمل بجمال عبودية وتحلى بحلل عبودية وتكمل بكمال عبادة فكان عبداً عاملاً نعم العبد إنه أواب.
هذه بعض آدابهم فى مساجدهم الخاصة وبعض مشاهدهم التى تشرق عليهم فتجذبهم إلى الإقتراب من الحضرة العلية بالتخلى عن معانى الربوبية وتحققهم بكمال العبودة والسجود- قال الله تعالى: (كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) سورة العلق آية 19 فيتقرب بالسجود لأن السجود كمال التحقق بالذل والإضطرار والمسكنة للعزيز العلى المتعالى، فيكشف الحجاب سبحانه عن عين عبده ويشهده جماله ويقربه منه سبحانه.
هذه كانت مساجدهم الخاصة وصلواتهم:
كان الرجل يسجد فى مسجده فيحدث له أعظم الشئون فإذا هَمَّ أن يهتم بهذا الشأن العظيم سطعت لوامع مواجهة السر لعظيم كبير حاضر قريبٍ لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد فيقول أعوذ بالله من هذا الوارد، وقد يخرج من كل ماله أو يفر من ملكه لأنه خطر على قلبه فى وقت المواجهة وكاد يقطعه عن الله فيخشى أن يقطعه فيتبرأ منه اتباعاً لعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، بسند البخارى عن عقبة بن الحارث قال: صليت وراء النبى صلى الله عليه وسلم بالمدينة العصر فسلم ثم قام مسرعاً فتخطى رقاب الناس إلى بعض حجر نسائه ففزع الناس من سرعته فخرج عليهم فرأى أنهم عجبوا من سرعته فقال عليه الصلاة والسلام: (ذكرت شيئاً من تبر عندها فكرهت أن يحبسنى فأمرت بقسمته)، ذكر صلى الله عليه وسلم التبر فى الصلاة فأسرع عقب السلام يتخطى الصفوف حتى أخرجه من ملكه خشية أن يحبسه أى يشغله لكى يسن لنا صلى الله عليه وسلم أن نقف فى الصلاة موقف من لا يشغله شىء غير ربه، فإذا شغله شىء عن مواجهته أنفقه فى سبيل الله سبحانه كما قال الخليل على نبينا وعليه الصلاة والسلام (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ) سورة الشعراء آية 77 وكما فعل صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما وقف يصلى فى حائط له (بستان) فرأى فى صلاته عصفوراً بين الأشجار الملتفة حاول أن يخرج فلم يستطيع لتكاثف الأشجار فانشرح صدره وهو فى صلاته بما شهده من مواجهة العلى العظيم وكاد يذوب قلبه حسرة على نفسه التى التفتت وهو مواجه لربه فاشتغل بغير من هو موجه إليه فى مسجده وبين يدى ربه وخرج من صلاته مسرعاً إلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان فقال: يا أمير المؤمنين إنى خرجت من حائطى (الفلانى) فاجعله فيما يحبه الله، فسأله أمير المؤمنين فأخبره وهو يبكى، فجعله أمير المؤمنين فى نفقة للجهاد.
هكذا كانوا رضى الله عنهم إذا وقف الرجل منهم فى مسجده الخاص حجبت أنوار العظمة والكبرياء كل شىء سوى الله، فإن خطر على قلوبهم مال أو ملك خرجوا منه فارين إلى الله وجعلوه فى منفعة المسلمين.
آدابهم فى المسجد العام:
ولا أتعرض للآداب العامة فإن كتب الفقه فصلتها كتحية المسجد وترك المرور فيه والجوس للجنب وكعدم البيع والشراء فيه وترك البحث والسؤال فى المسجد عما ضاع فى غيره وتحريم البصاق تجاه القبلة وكراهة أكل الثوم والبصل للمتوجه للمسجد والترغيب فى النظافة والطيب.. كل هذه الآداب قد بينت فى كتب الفقه، إنما أريد أن أبين الآداب الخاصة بالخواص ملاحظاً فى ذلك ما كان عليه أصحاب رسول الله صلوات الله وسلامه عليهم.
معلوم أن دخول المسجد إما واجب عيناً أو سنة مؤكدة أو مرغوب فيه، فيكون واجباً عيناً لصلاة الجمعة وسنة لصلاة الفرائض جماعة ومرغب فيه لذكر الله وقراءة القرآن والتنفل بالصلوات، أما آدابهم فى دخول المسجد فى وقت الوجوب فكان الرجل منهم يعتقد أن ربه سبحانه وتعالى أمره بالحضور إليه فيخرج من بيته ليقابل مولاه جل جلاله عن أمره له بالحضور، ويخرج لا يدرى أيوفقه لعمل ما يرضيه عنه أم يقدر عليه ما يسخطه عليه، فيخرج من بيته خاشع القلب وجلاً، وكلما قرب من المسجد اشتد خوفه.
كانوا رضى الله عنهم لا يدخلون المسجد إلا على طهارة من بيوتهم، فإذا دخلوا المسجد صار كل منهم بين مشهدين كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن راه فإنه يراك) فيكون إما شاهداً لربه أو على يقين حق أن الله عالم به ناظر إليه حاضر معه، فيفتتح بتحية المسجد ثم يجلس غاضاً بصره عن الإلتفات الذى يشغل قلبه عن إستحضار الشأن الذى هو فيه من جلوسه فى بيت الله بأمر الله بين رغبة فى نيل القبول والرضا ورهبة من الرد والغضب، ومن كان كذلك أغناه شأنه الذى هو فيه عن كل الشئون، وكيف يشغل من رأى ربه أو من يعتقد أنه يراه عن شىء آخر؟! هذا مستحيل فإن الإنسان العاقل إذا سلب القط دجاجة من أمامه ترك الطعام وفر وراءه حتى يستنقذه منه أو يعجز غير ملتفت لشىء مهما عظم، فإذا كان المستنقذ الدجاجة من القط لا يشغله شأن عن شأن .. فكيف يشتغل من رأى ربه أو من أيقن أن ربه مطلع عليه فى الصلاة بشىء آخر؟! فكان بعضهم يجلس للمراقبة حتى يؤدى فريضة الجمعة وبعضهم يجلس للذكر بالقرآن المجيد والتسبيح والتهليل والتكبير، وبعضهم يجلس يسأله الناس عن أمر دينهم ويتحلق حوله الناس، كان الرجل منهم يكره أن يشغل أخاه لعلمه أن كل إخوته فى المسجد مشتغلون بما يقربهم إلى من هم فى بيته من الآداب والعمل.
آدابهم فى دخول المسجد والجلوس فيه:
كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرص الناس على التبكير إلى المساجد، فمن بكر أسرع إلى الصف الأول ومن لم يبكر حيث ينتهى به المجلس ولو فى أخريات المسجد كراهة أن يفرق بين إثنين أو يشغل جالساً مشغولاً بذكر الله أو يتخطى رقاب الناس فيشتغل عن آداب المسجد ويشغل قلب غيره عن المراقبة، كان الرجل منهم يكره أن يتحرك له أخوه ليفسح له فى المسجد حرصاً على راحة أخيه، وكان الجالس إذا رأى أخاه مقبلاً فسح له فى المجلس دون أن يتكلم أو يشير لأن السكينة والخشوع لا يفارقانهم رضى الله عنهم، وقد بلغ بهم الخشوع فى المسجد مبلغاً حتى أنه كان يدخل عليهم فيه اليهودى أو النصرانى فيكاد يذهب عقله أو يصعق ويغشى عليه من هيبة الصحابة فى خشوعهم وسكينتهم وقت إنتظار الصلاة أو فى الصلاة وربما سارع إلى الإسلام، وكم من أسير شهد الصحابة يصلون وكان أشد الناس نفوراً من الإسلام فملأ الله قلبه نوراً وأقبل على الإسلام بإخلاص، وما تعلم الصبيان الخشوع لله والحب لله والمسارعة إلى مراضى الله تعالى إلا بجلوسهم مع آبائهم فى المسجد وشهود ما عليه أباؤهم، وكانوا رضى الله عنهم يجذبون قلوب الكفار بسمتهم وهديهم وخشوعهم لربهم فى مساجدهم ويجملون الصبيان بالفضائل الإسلامية حتى ينشأ الصبى كوالده.
كانوا ممن قالوا (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) سورة الفرقان آية 74 فاستجاب الله تعالى لهم فجعل كل واحد منهم رضى الله عنهم إماماً لأهله وأبنائه وجيرانه، يكون الرجل واحداً وله صور لا تحصى، تراه فى جميعها كما تراها حين مشاهدته، كانوا إذا ارتقى الخطيب المنبر أمسكوا عن الصلاة وأخذوا فى ذكر الله بالقول والفكر واشتدت رغبتهم فيما عند الله والمسارعة إلى ما ينالون به رضوانه معتقدين أنه ربما لا يطول عمرهم حتى أمسكوا عن الكلام وأقبلوا بكليتهم مواجهين له لأن السماع فرض، فكنت ترى حسن الإصغاء منهم رضى الله عنهم لما يعلوهم من أقشعار جلودهم وتقاطر دموعهم وخشوع ظاهرهم عند التخويف وانبساط وجوههم وإشراق أنوارها عند البشائر والرحمة، فتراهم كأنهم بين مستغفر نادم ومحوقل خائف وحامد فارح وشاكر طالب للمزيد، كل ذلك تظهر دلائله حالاً لا مقالاً، فإذا أتم الخطيب خطبته ونزل وقف كل مسلم موقف من يريد أن يمتع أخاه بالراحة وخير المجلس، وفى أقل من نفس تراهم اصطفوا كصفوف الملائكة لحاهم على صدورهم وأبصارهم تنظر لأقدامهم كأن القوم وقفوا للحساب أمام رب العالمين وقد أشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجىء بالنبيين والشهداء وقضى بينهم بالحق وهم لا يظلمون، ولا غرور فإن السلم إذا وقف للصلاة إستحضر هذا المشهد أو مشهداً فوقه قبل دخوله للصلاة ليصلى فتنزل الطيور عليهم وتمكث فلا تحس بأنهم أحياء إلا عند تحريكهم لفرض من فرائض الصلاة، فإن كانوا وقوفاً وقف الطير على رءوسهم حتى يركعوا كأنهم البنيان المرصوص، لم يكن ذلك إلا لما تفضل الله بهم عليهم من كمال الخشوع وما أنزل عليهم من السكينة حتى صارت صفوفهم فى الصلاة فوق صفوف الملائكة حول العرش، فإذا قال الإمام الله اكبر وكانت القلوب فارغة مما سوى الله مقبلة بالكلية على الله أشرقت أنوار الكبرياء والعظمة على تلك القلوب الوجلة فملائتها خشوعاً قال الله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فى صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ) سورة المؤمنون آية 1-2.