على هامش التصوف :
التعصب للرأي فساد الأمم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المدينة المنورة : السنة 10 العدد 4 : ص 11 .
الجمعة 25 رجب 1356 هـ الموافق 1 أكتوبر 1937 م .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الإنسان مهما ترقي بالعلوم والمعارف وتَزَكى بالجهاد والتجارب وتحقق بالمران والعمل وتيقن بالبحث والخبرى لا يسلم من الخطأ ولا ينجو من الغلط ، لأن الإنسان محلا للغفلة والنسيان ، فمن رأى رأيا أو قرر حقيقة وعورض فيها فتعصب لرأيه وتحدى معارضيه أفسد نفسه أولا وأفسد غيره وفتح بابا من أبواب الشر لا يعلم منتهى عاقبته ، فالتنازع الإنساني والتخاصم النفساني والانقسام الإجتماعي والتفرقة الماحقة والحروب الدامية والاختلافات المذهبية والبليات الدينية .. جميعها مصدرها التعصب للرأي والانتصار للعاطفة .
إنظر لنفسك أولا ، وفي بيتك ثانيا ، وفي الشعوب والأمم وبين العلماء والرؤساء والقواد والزعماء ترى الأمر واضحا جليا . لم تقم الفتن ولم تقع الحروب ولم تنقسم الأمم على بعضها ولم تقع الأسر والجمعيات في الضعف والتفرقة والعداوة والبغضاء إلا لسبب التعصب الممقوت والثقة بالنفس وترك المشورة التي أمر بها الحكيم الخبير جل جلاله . فلو رجع الإنسان إلى تعاليم القرآن واتبع الأئمة الأعلام ورثة المصطفى عليه الصلاة والسلام لاستقام الأمر واستتب الأمن وعاش الإنسان منتفعا بمواهب أخيه الإنسان وتعاون معه على البر والإحسان ونبذ العداوة والشقاء واستراح من الهم والغم والكرب .
التعصب للرأي فساد في العقول خراب للقلوب ضياع للمواهب ضعف للعقائد الدينية شرك في الصفات الإلهية – لأن المنزه عن الخطأ والنسيان واحد أحد ليس له مثيل في ذاته وفي أسمائه وصفاته . كان الرجل الصحابي من تلاميذ المصطفى صلى الله عليه وسلم إذا رأى رأيا أو حكم حكما وعارضه فيه رجل أو غلام أو امرأة سلم واستسلم وقرر خطأه على رؤوس الأشهاد ولا يبالي مهما كان قدر خطأه ومنزلة الثاني ، ففي تايخهم من العبر والحكم ما يعجز اللسان أن يوفي به ، ولذلك كانت دولتهم قويمة البنيان مشيدة الأركان وحفوظة من الإثم والعدوان ، وهي قاموس لكل دولة تريد المعالي ولكل جماعة تحب الإصلاح ولك فرد يرغب السيادة .
والتعصب للرأي هدمٌ للإنسانية وضياعٌ للمجد وانحطاط للشرف وفقدان للعز وسلب للرئاسة ومحو للزعامة ومفتاح للهرج والمرج . ولا أبعد عنك عن المرئي والمسموع والمحسوس والملموس : إنظر إلى شعبنا المصري وجالس الرؤساء والعظماء والزعماء ورجال الجمعيات وأنصار الأحزاب ترى العجب العجاب ، ترى كل رئيس يعزز رأيه وينصر فكرته ويتعصب لمبدئه ، وإن خَطَّــأْتَهُ في أي ناحية من النواحي أو في أي جهةٍ من الوُجَهِ عارض وعاند بل ثار وغضب وأعلن عليك بالحرب ورماك بالحزبية والجهالة ولو أقمتَ عليه ألف دليل ودليل على بطلان نظريته وخطإ فكرته ويرميك بكل ملمة ويشنع عليك ويقبح أعمالك ويشيع الفاحشة عنك ويستر محاسنك وينبذ صداقتك .
التعصب للرأي مرض قاتل متى أصيب به إنسان صار إلى الشيطان أقرب من الإنسان ، وهو أول معصية واجهت الحق جل جلاله وأول مفسدة اتصف بها إبليس لعنه الله ومنها تفرعت جميع المفاسد الكونية وبها هلكت الأمم السابقة ، فكان الرسول يرسل ويقوم بالحجج والبينات والدلائل والبراهين على فساد رأي قومه وبطلان ما هم عليه فيتعصبون لرأيهم ويطرحون خلف ظهورهم كل ما جاءهم به رسولهم . ولم تزل هذه الصفات ترثها الأبناء عن الآباء جيلا بعد جيل وقرنا بعد قرن ، وما نحن فيه معاشر المصريين من خلاف وتفرقة وتطاحن وتنابذ وخصام سببه الحقيقي التعصب للرأي ، إقرأ إن شئت الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية ، في أي ناحية من النواحي وفي أي موضوع من المواضيع ترى من قاموا قادة للشعب ورؤساء للسياسة وزعماء للإصلاح وأساتذة للعلوم والآداب في ميدان التعصب للرأي واقفون وبنبال السب والقذف رامون وبآراء بعضهم ونظرياتهم يسخرون وكأن كل واحد منهم نبي ورسول لا ينطق عن الهوى ورأيه وقوله وحي يُوحَى لا يقبل النقد ولا التحليل ولو كان فساد وجهل وتضليل . ومتى فسدت الرؤساء فسدت الأمة وانشقت على بعضها وذهبت ضحية سوء الرأي والعصبية الباطلة .
أيها الكتاب : لستم على شيء حتى تصلوا إلى درجة الإنصاف ، والإنصاف هو البحث عن الصواب أين كان وترك الغرور بالنفس والرجوع إلى الحق والاعتقاد أن المواهب موزعة على الخلق لم يختص بها فردا من الناس ، فرب حقير فقير أمي جاء بما يعجز الفصحاء والبلغاء ، ورب سافل خامل ساد العظماء والزعماء – والأمثلة من حولكم وفي زمنكم لا تحتاج إلى بيان .
أيها الزعماء والأدباء : لا تحتقروا ما هو دونكم أو مثلكم فكل عضو فرد من المجتمع ، والمجتمع جسد واحد ، ومتى أصيب عضو من الجسد ولو صغيرا حقيرا كشريان مثلا ضر الجسد وأمرضه وأضعفه وأفسده . وإذا تساهل الإنسان بصغير الأمراض واستخف بحوادث الأعراض ربما وصل الإنسان بإهمال هذا إلى الهلاك الكلي والفناء الأبدي .
أيها الجمعيات القائمة والأفراد المتقدمة والرعاة المسئولة : أمامكم شعب هائج مائج ودول قائمة في هرج ومرج وأفراد هائمة في كل شعب وواد وآراء كالزوابع المختلفة في بطون الأودية ورؤوس الجبال والعالم الأرضي سائر إلى حيث لا يُعلَمُ له مصير والأمراض قد تشعبت فروعها في كل مجتمع ، وأشر الأمراض مرض التعصب للرأي – والفتنة شر من القتل كما وصفها العليم الخبير . فإن شئتم النجاة بأنفسكم وبأممكم فارجعوا لصوابكم وسلموا لربكم وتحاكموا إلى كتابه الذي فيه سعادتكم وتخلقوا بأخلاق نبيكم وسيروا بسِيَرِ أئمتكم تفوزوا وتسعدوا وتنالوا المجد الذي إليه تشتاقون وإليه ترغبون .
عبد الباسط القاضي