الصوفية والتصوف: فى الأخلاق والتخلق بأخلاق الله وأخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتحملهم فى نيل هذا الخير ما لا يتحمله غيرهم
مجلة المدينة المنورة السنة 9
العدد 12، 13 -26،23 نوفمبر 1936
أصحاب رسول الله هم الأئمة الذين بالتشبه بهم تكون النجاة ونيل الفلاح والرضوان الأكبر فى الدنيا والآخرة، ومعلوم ما كانوا عليه قبل بعثته صلى الله عليه وسلم من قساوة القلب وسوء الأخلاق وشح النفوس وعبادة الحظ والهوى وإتباع خطوات الشيطان، مما كان راسخاً فى طباعهم منقوشاً على قلوبهم، يقتل الرجل منهم ليحافظ على أرذل رذيلة، وقد تأخذه حمية الجاهلية لكلمة يسمعها فيقتل أكثر القبيلة، حتى أكرمهم الله تعالى بإشراق تلك الشمس المحمدية، فبدلت تلك الرذائل بالفضائل، فتخلقوا بأخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى كان الرجل منهم رضى الله عنهم يسأل عن أعماله صلى الله عليه وسلم الخصوصية فى خلوته وقضاء حاجته ونومه وكيفية ذلك مما لم يتمكنوا من شهوده، وبلغت بهم المحافظة على التشبه به صلى الله عليه وسلم مبلغاً به يرون من يخالفه صلى الله عليه وسلم ولو فى حركة الجسم أو كيفية الأكل والشرب واللباس منافقاً- وهو مشهد أهل العزائم ومأخذهم فى ذلك قوله تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) سورة آل عمران آية 31 وقد طالبنا الله تعالى بما طالب به رسله عليهم الصلاة والسلام فى كتابه، فيرون عمله صلى الله عليه وسلم بحسب مراتب السنة والتشبه به صلى الله عليه وسلم واجباً أو كالواجب، لا تسأل كيف بدل الله تلك السيئات بالحسنات، وكيف رقاهم إلى أن صاروا مع رسول الله وأنبياء الله.. تفهم يا أخى قدر مجاهدتهم لأنفسهم وقهرهم لها على الممارسة إلى التشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم وبذلهم النفس والنفيس فى نيل هذا المقام العلى، حتى اقتطعهم الله لذاته العلية، وأشرف بهم على قدس عزته وجبروته، وأشهدهم ملكوت السماوات والأرض مشهداً جعل الدنيا فى أنفسهم كجناح البعوضة أو أقل، وكذلك أهل العناية من الله تعالى السالكون سبيله سبحانه وتعالى الراغبون فيما عنده، يهب الله لهم مواهب فضله العظيم ويوردهم الله موارده الهنية، فتتجلى لهم حقيقة الدنيا الدنية، فيقهرون أنفسهم قهراً على التشبه بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجد صادق وعزيمة ماضية وهمة أسلامية، حتى يبدل الله سيئاتهم حسنات، فيكونون أبدال أنبياء الله عليهم السلام وورثة لرسل الله على نبينا وعليهم أفضل الصلاة والسلام، ويبلغ به حرصهم على التخلق بأخلاق الله تعالى والتشبه بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مبلغاً يكون السقوط فى النار عند أحدهم أحب إليه من مخالفة الله سبحانه ومخالفة رسوله صلى الله عليه وسلم.
لا تظن يا أخى أن الإنسان يفارق بشريته أو يخرج من حظه وهواه، فإن الهوى والشح والرأى لا تفارق الإنسان مهما كمل فى نوعه وأقبل بالإخلاص على ربه، إنما هى مشاهد قدسية من عين اليقين أو علم اليقين تجعل المؤمن لا يطيع شحه (وإن دعاه موجب قاهر) ولا يتبع هواه (وإن بعثه عليه مقتضى دافع) ولا يعجب برأيه (وإن عظم فى نفسه وعند غيره) والعبد المؤمن لا ينفك جهاده نفسه فى ذات الله لأنها أعدى عدوه ولها دسائس أخفى من دبيب النمل على الصخرة الصماء فى الليلة السوداء، ويسعر نار طبعها العدو إبليس بلمته عليه لعنة الله، ولا يزال يجاهد غيره فى الله تعالى وفى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه مطالب بهذا الحق لكل مسلم أمام ربه جل جلاله الذى يكون قاضياً، وأمام رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى يكون شاهداً،فإن أهمل فى ذلك كان تحت رحمة الله إن شاء رحم وغفر وهو الغفور الرحيم، ومن ظن أنه تجاوز مقام المجاهدة لنفسه ظن شراً، ولا تنتهى مجاهدة المسلم نفسه إلا عند الغرغرة (الوقت الذى لا ينفع فيه عمل) أو عند سلب العقل الذى به التكليف- قال تعالى: (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) سورة الأعراف آية 99، فدواعى الشح والهوى والرأى سور من حديد محاط بكل إنسان يكاد يمزق أعضاء الإنسان إن لم ينفذ مقتضاه لولا عصمة الله تعالى للمسلم لهوى به شحه وهواه ورأيه إلى الحطمة- قال تعالى: (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آَيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) سورة آل عمران آية 101، وقال تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) سورة آل عمران آية 103، وقال الله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) سورة التغابن آية 16، فالرأى والهوى والشح لوازم الإنسان، إنما القبيح فيها أن ترى شحاً مطاعاً وهوى متبعاً وإعجاب كل ذى رأى برأيه، فإذا رأيت ذلك يا أخى فى الناس فجاهد نفسك أعانك الله كل المجاهدة أن تفارقهم وإن كنت معاشرهم، وأن تخالفهم وإن كنت فى الظاهر توافقهم مداراة عن عرضك ونفسك.
وأحذر يا أخى أيدنى الله وإياك أن تتخذ هواك إلهاً يعبد من دون الله أو تجعل رأيك تعمل به دون سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو تطيع شح نفسك مخالفاً لوصايا الله سبحانه ووصايا رسول صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك هو النفاق العلمى العملى نعوذ بالله من النفاق، وأعلم يا أخى ودنى الله وإياك بوده أن مراد الحق منك هو عين السعادة الحقيقية لك وبه نيل رضوانه الأكبر إذا وفقك للقيام به فضلاً منه وكرماًَ، وإن لم يوفق الله الإنسان- نعوذ بالله من حرمان التوفيق- وعمل بهواه وشحه ورأيه، كان ذلك جليل غضب الله على الإنسان.. أعوذ بوجهه الجميل من غضبه.
فابحث يا أخى – هدانى الله وإياك صراطه المستقيم- عن أثار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخلاقهم وأحوالهم وأعمالهم، وجاهد نفسك كل المجاهدة أن تتشبه بهم حتى تكون صورة كاملة ينظر الله تعالى إليك ويقبلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وتكون من أهل معيته الذين وصفهم الله وأثنى عليهم فى آخر الفتح.
وإياك يا أخى أن تقلد غير أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما رأيته يا أخى من بعض الرجال الذين أكرمهم الله فى كل عصر بعد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتقد أنه فضل من الله بمن تفضل الله به عليه، وأن العبد الصالح الذى اقتطعه الله إليه فأفناه عن نفسه وحسه حتى سلب القوة التى بها التكليف ليس إماماً للمتقين ولا قدوة للسالكين ولكنها مشاهد روحانية قد تمزق غلاف القلب، فأكرم من رأيتهم بهذا الحال وسل الله لك ولهم الكمال ولا تقلدهم فإن تقليدهم كفر.
وقد عمت المصيبة حتى صار بعض السالكين يقلدون من غلبت محبته حتى محقت مكانته البشرية فى نظره هو وحجبت حقيقته الآدمية فصار لا يميز بين تعسة وشرف وفقر وغنى، حتى استوى فى نظره المؤلم والملذذ لاستغراقه فى شهود الملكوت، وتقليد هذا مع التمييز والإدراك إتباع لخطوات الشيطان وبعد عن موارد الإحسان ومخالفة لسنة النبى المختار صلى الله عليه وسلم.
فعليك يا أخى- منحنى الله وإياك المسارعة إلى مغفرة من الله ورضوان- أن تبذل ما فى وسعك فى البحث عن الرجل الدال على الله الموصل إلى حظيرة القدس المبين لسبيل الله الممد من روحانية رسول الله، العارف الربانى الإنسان الكامل فى ظاهره وباطنه الذى هو محل نظر الله من خلق الله، فإذا ظفرت به فاحرص على التشبه به بقدر استطاعتك، وتجسس يا أخى بكل ما فى وسعك عنه فى سره وعلانية، وتحسس عنه يا أخى فى جلوته وخلوته، ونافس يا أخى فى أن تكون صورة كاملة له، فإن من الله عليك بعظيم فضله وسقاك طهوره المقدس فى الوادى المقدس فى مقام تكون معه ويكون سبحانه معك فجاهد نفسك أكبر المجاهدة فى ذات الله لتكون أنت حقيقة الرجل حتى تفنى فيه فناء تكون أنت هو، ولديها يا أخى تكون كوكباً مضيئاً فى سبيل الدلالة ونوراًَ مشرقاً فى سبيل الهداية، وقبل أن تصل إلى هذا المقام فاجعل كل همتك فى مجاهدة نفسك فإنها والله يا أخى أعدى عدوك وأكبر خصومك، فإذا تخلقت بأخلاق الله وتشبهت برسول الله صلى الله عليه وسلم فجاهدها كل المجاهدة على شكر نعمى الله التى لا تحصى، وأكثر من السجود فى جوف الليل ومن المسارعة إلى نفع إخوتك المؤمنين بنفسك ومالك وجاهك إن استطعت وأعانك الله أو بفضلها على قدر استطاعتك أعاننى الله وإياك يا أخى بروح منه، ومتى تخلقت بأخلاق الله وتجملت بالتشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم كنت مع الله وكان الله معك فجبر كسر قلبك وجعله بيتاً معمراً به سبحانه فتشرق أنواره القدسية من منافذ هيكل ذاتك الإنسانى فيجعل الله لك يا أخى نوراً فى لسانك وفى عينك وفى أذنيك وفى يديك وفى رجليك وفى أنفك وفى بطنك وفى فرجك ثم يجعلك كلك نوراً فتكون كما قال تعالى: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) سورة البقرة آية 115 وكما قال سبحانه وتعالى: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فى زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) سورة النور آية 35، فيواجه النور الإلهى الحقى النور العبدى الحقى كما قال تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) سورة القيامة آية 22-23، وفى هذا المقام تقوم قيامة العبد المؤمن وهو حى يمشى فى الناس كما قال تعالى: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فى النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فى الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) سورة الأنعام آية 122، وكيف لا والعبد تخلق بأخلاق ربه وتجمل بجمال التشبه بحبيبه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم.. هذا العبد والله هو الشمس التى تضىء ملكوت لله الأعلى، والنور الذى تستمد منه الملائكة الكرام، وصورة الرحمن وآية البيان فسارع يا أخى إلى تلك المقامات العلية ولا تحجبك عنها حظوظ نفسك الدنية وزينة تلك الدر الفانية، فإنها فى الحجب الظلمانية، عصمنى الله وإياك يا أخى من الناس، وأعاذننى وإياك من الوسواس الخناس، وفتح لى ولك أبواب فضله العظيم، وأعاذنى وإياك بوجهه الكريم ومن موجب النقم.. إنه مجيب الدعاء.
إن الإنسان قابل لأن تنوع أخلاقه، وبينت ذلك فى كتاب أصول الوصول وكتاب معارج المقربين، وكتاب النور المبين وغيرها، وأقمت الحجة على ذلك فلا حاجة لإعادتها.
ولما كانت الأخلاق تتغير من سيئة إلى حسنة ومن قبيحة إلى جميلة ومن رذيلة إلى فضيلة، كل ذلك بمجاهدة النفس وقهرها على أنواع التزكية وتناول الأدوية المزيلة لأمراضها من يد الطبيب الروحانى العارف الربانى العالم بأمراض النفوس وأسقامها وعللها الذى منحه الله حكمة الشريعة وأسرار أحكامها وجعل له بصراً يبصر به فكان من المتوسمين، فإذا أراد الله بعبد خيراً من عليه بهذا العارف الربانى ومنحه التسليم له فأورده الصفا وسلك به مسالك القرب وعلمه مما علمه الله رشداً حتى يعرف نفسه فيعرف ربه، ومتى عرف نفسه وعرف ربه شهد من نعم الله التى لا تحصى ومنه التى لا تستقصى ما يجذبه بكليته إلى ربه فيحب الله حباً يشغله عن كل ما سواه ومن سواه ويسارع إلى محاب الله مراضيه فيظهر له أن الله سبحانه وتعالى يحب أخلاقه القدسية وصفاته العلية التى بها القرب منه سبحانه والوصول إليه جل جلاله فيسارع بحول من الله وقوة لأنه عرف نفسه أنه من طين لازب وأن ما زاد على الطين فهو من فضل الله ونعماه فيقف عند حده معتقداً أنه من طينة أو ماء مهين ويشهد بقية الجمال الذى جمله الله به من الله ولله ثم يشهد ما حوله من نعم احاطت به وأنواع سخرت له من أرض وسماوات ومعادن ونباتات وحيوانات وما بين ذلك من ملائكة وجنات ونعيم وخيرات، كل ذلك مسخر له من الله فضلاً منه وكرماً لا لعمل عمله إذ لا حول وقوة إلا بالله، وهل للماء المهين فى القرار المكين حول أو قوة؟ تنزه ذو الجلال والإكرام عن أن يكون لأحد عمل سواه أو يكون لأحد نعمة أو منة غير الله تعالى المنعم المتفضل الوهاب الكريم، فيحب العبد المؤمن أخلاق الله تعالى ويجاهد نفسه وهواه مجاهدة قاهرة على أن يتخلق بالأخلاق المحبوب لحبيبه ومولاه الذى من طينة أنشأه وسواه ومن ماء مهين صوره ولديها يمكنه أن يتخلق بالأخلاق الربانية ويتشبه بحبيب الله ومصطفاه ويكون من أهل معيته المحمدية الذى أثنى الله عليهم.
ليس الأمر بصعب على من يسر الله له الخير، فإن الله جل جلاله له أخلاق جمالية يعامل بها سبحانه من يحب، وأخلاق جلالية يعامل بها من يكره، سبحانه الرءوف الرحيم الحليم الكريم المنعم المتفضل القريب المجيب الحنان المنان، وهى الأخلاق التى يعامل بها جميع خلقه فى الدنيا- قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) سورة البقرة آية 126، ثم يختص المؤمن بهذا الفضل العظيم يوم القيامة، فاشتراك المؤمن والكافر فى رحمة الله فى الدنيا لتكون له الحجة على جميع خلقه يوم القيامة وليظهر سر قوله تعالى: (وَاكْتُبْ لَنَا فى هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ) سورة الأعراف آية 156 فى الدنيا لأنها سبقت غضبه، وقد خصصها للمؤمنين يوم القيامة بدليل قوله تعالى: (وَاكْتُبْ لَنَا فى هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ) سورة الأعراف آية 156 وهو سبحانه القهار المنتقم شديد البطش القوى المذل المانع الضار، وهى الأخلاق التى يعامل بها من يكره، فالمؤمن المتخلق بأخلاق الله يجمله الله بالرأفة والرحمة والعفو والسماح والشجاعة والكرم والعفو والحنان والعطف والود والفضل والعلم والحلم والشفقة فيعامل بها أحباب الله أهل الحق معاملة لله، ويجمله الله بأن يجعله متصفاً بالقهر والجبروت والقوة والانتقام يعامل بها أعداء الله معاملة لله، فيضع كل خلق من أخلاق الله فى موضعه، فيكون ذليلاً متواضعاً مسكيناً لأهل الحق مع الرأفة والرحمة والشفقة وبذل ما فى يده معاملة لله، ويكون قوياً شجاعاً شديداً مع أعداء الله حباً فى الله وتخلقاً بأخلاق الله.. وبذلك يكون العبد متخلقاً بالأخلاق الربانية محباً لله محبوباً لله، فإذا رأيت فى نفسك هذا فاشكر الله تعالى، وأعلم أن الله أورد عليك من مواهبه العلية ما لا قبل لك أن تناله ولو عمرت الدهر وصرفت أنفاسك وحركاتك فى قربات، وشتان بين ما يورده الله عليك وما تورده أنت على مولاك، فأنت يا مسكين وما عملك؟ وإنما الوارد ما يرد من الله عليك لا ما تورده أنت على مولاك، فأنت يا مسكين إن شهدت عملك أشركت بربك وكفرت بوحدة الأفعال، وإن عملك الذى تعمله يجب أن تشهده وارداً من الله، فإنه سبحانه إن أراد أن يوقفك أمامه مواجهاً له فى صلاتك أقامك وواجهك، وإن أحب أن تترك شهوتك لك بالصوم وفقك، وإن أراد أن يجعل لسانك رطباً بذكره وقلبك مشرقاً بنوره أعانك ووهب لك، فأحذر أيها السالك أن يكون فرحك بعملك أو اعتمادك على عملك فإن ذلك حجاب سميك حجب السالكين وأوردهم موارد البعد عن رب العالمين، وأحذر يا أخى أن تعمل عملاً لتنال حظاً عاجلاً أو نعيماً آجلاً فإن هؤلاء عباد الأكوان، ومكون الأكون هو المقصود للمقربين وخير للأبرار من أهل اليمين.\
إن للعبادة يا أخى آيات تظهر وأسرار تلوح لهم فيقفون عندها فتكون العبادة حجة عليهم ويوم القيامة يقول الله لهم: إنا خلقناكم لا لعلة ورزقتكم لا لعلة ولا لغرض وصورتكم من ماء مهين وقبل ذلك أنشأتكم من الطين، وسخرت لكم ما فى السموات وما فى الأرض فضلاً منى وإحساناً عليكم، فلم جعلتم علة لعبادتى ولم تخلصوا لذاتى؟ أفى حاجة أنا إلى عبادتكم إياى؟ أما سمعتم قولى الذى أنزلته على حبيبى: (أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ) سورة الزمر آية 3؟ أنا الغنى عنكم المتفضل عليكم أخلصت لكم فضلى بلا علة ووهبت لكم نعمتى بلا غرض وأنتم الفقراء المضطرون إلى جنابى، كيف تشركون بى غيرى فى طاعتى وعبادتى؟؟؟!!!.. لديها والله تذوب القلوب ويتمنى الإنسان أن يكون تراباً لولا عواطف رحمة الرءوف الرحيم وواسع مغفرة التواب الكريم، فأخلص يا أخى العبادة لوجه الله، وأعلم بعد ذلك أنك لو سألته لباك ولو ناديته لاستجاب لك وأعطاك، هو اللطيف الخبير الكريم الفاعل المختار لما يحب ويشاء ويريد، لا يُسئل عما يفعل وهم يسألون.