الحمد لله المتفضل على من يشاء ، المعطي الوهاب لمن يريد بغير حساب ، لا ينقص ملكه العطاء، ولا علة له في إيجاد الأشياء ، إذا أحسن فمن فضله وإذا منع فمن عدله ، إنما أمره إذا أراد أن يظهر ما في العلم القديم المكنون قال له : كن فيكون . والصلاة والسلام على إمام المحسنين وسيد الأنبياء والمرسلين ، منبع الإحسان ومنهله ومصدر رياض العرفان ومنهجه ، سيدنا محمد وآله وأصحابه وورثته .. وبعد :
فإني بعد صحبتي الطويلة لإمام زماني الوارث القرآني مولانا السيد محمد ماضي أبو العزائم، وتلقيت منه سماعا علوم اليقين ومقامات المقربين بعد مقامات الإحسان وعلوم الإيمان، و قد كتب فيها رضوان الله عليه الكتب الكثيرة، ولكن ما كتبه في الصدور أكثر مما كتبه في السطور، فصار لزاما على الشاهد أن يبلغ الغائب، وإلا كان بكتمانه للعمل آثما – لا سيما علوم الإمام الخاتم السيد محمد ماضي أبي العزائم.
لهذا شرعت بعد انتقاله أن أكتب كل ما سمعته عنه وتعلمته منه قدس الله سره، وقد أعانني الله تعالى على كتابة تفسير النصف الثاني من القرآن الكريم، لأن الإمام فارق الدنيا وكان قد كتب في التفسير إلى آخر سورة النحل ولم يتم التفسير، فابتدأت من سورة الإسراء إلى سورة الناس، وقد وفقني الله تعالى أيضا وكتبت كتاباً في الإيمان وشعبه وسميته كتاب ( الشعب في الإيمان الكامل ) وهو يحتوي على تسع وسبعين شعبة.
ولما كان للدين مقامات لا تنتهي ودرجات لا تنقضي .. خصصت هذا الكتاب لمقام الإحسان وسميته [ رياض العرفان في مقامات الإحسان ]. وليس لي فيه من شيء إلا التبليغ والألفاظ، فما كان فيه من صواب فهو من تعاليم إمامي ومرشدي وأستاذي السيد محمد ماضي أبي العزائم، وما كان من خطأ في اللغة أو المعنى فهو من جهالتي وسهوي وعجلتي.
أسأل الله بجاه إمامي وجاه جده أن يجعل هذا خالصا لوجه الله مقبولا مرفوعا صالحا، وأن يحفظني فيه من الزلل والرياء والعجب والكبرياء والفتنة والغرور، وأن يجملني بجمال التواب الغفور الشكور . حتى أرد الأمانة إلى أهلها وأن يحفظني في تبليغها إنه مجيب الدعاء.
الدليل والبرهان في مقام الإحسان :
إن الله تعالى ما فرط في كتابه من شيء، وأن رسول الله ﷺ ما ترك شأنا أو أمرا من قواعد الدين وأصوله أو درجة من درجاته أو مقاما من مقاماته إلا وبينه وعرفه أو أشار إليه ، لأنه النبي الخاتم للنبوات المتمم للرسالات سر قول الله تعالى {اليَومَ أَكمَلتُ لَكُم دِينَكُم وَأَتمَمتُ عَلَيكُم نِعمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسلاَمَ دِينًا} [المائدة : 3]. فدليل مقام الإحسان من القرآن كثير وبيانه في الآيات كالسراج المنير مثل قوله تعالى {وَاللهُ يُحِبُّ المُحسِنِينَ} [ المائدة : 93 ] وقوله سبحانه {وَذَلِكَ جَزَاءُ المُحسِنِينَ} [المائدة : 85 ] وغير ذلك من الآيات الكثيرة.
وأما أدلة مقامات الإحسان من السنة فليس لها حصر ولا عد، والأدلة قاطعة والبراهين ساطعة على أن مقام الإحسان فوق مقام الإيمان كقوله ﷺ ” إن الله كتب الإحسان على كل شىء … ” [1] ، وأوضح دليل في الأحاديث النبوية حديث جبريل مع النبي ﷺ أمام الصحابة حين سأل النبي ﷺ وقال له : يا محمد ما الإسلام ؟ فأجابه . ثم سأله بعد ذلك عن الإيمان فأجابه. ثم سأله عن الإحسان فأجابه بقوله ﷺ ” الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ” [2] إلى آخر الحديث. وكان جبريل يسأل عن كل مقام والمصطفي يجيبه على مسمع من أصحابه الكرام .. كل هذه الدلائل القرآنية والأحاديث النبوية تفيد أن مقام الإحسان من كمال الدين ومن رسالة سيد المرسلين. وقد مضى على المسلمين قرن وأكثر وهذا العلم مطوي في خبايا الزوايا وفي صدور الرجال العاملين، تتناقله الأقلية من عباد الله المخلصين ومن الأولياء الصالحين، إلى أن كاد أن ينسى أصله ويختفي أهله. وقد تغلب أهل الدنيا بعلومهم على أحبابه وهجم ليل الظلم والجهل على أصحابه وطلابه، حتى قيض الله الإمام القائم مولانا السيد محمد ماضي أبا العزائم فرفع لواء المحسنين وجدد بهمته وعزيمته أحوال الصالحين وأعاد علوم سيد المرسلين، فوجب على من تلقى من علومه الربانية أن يبلغ الأمة الإسلامية أن مقام الإحسان أوله التدبر في آيات الله والتفكر في آلاء الله والنظر فيما يحيط بالمؤمنين من آثار رحمة الله والسياحة في ملكوت السماوات والأرض، وأن يطلب المؤمن معلما صالحا عارفا بالكتاب والسنة عاملا بها متمكنا في أصولها وفروعها متجملاً بالخشية والاستقامة هاديا مهديا سر قوله تعالى {اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [ يس : 21 ] .. قوامه الزهد والورع، عالم بظاهر القرآن وباطنه وحده ومطلعه، إتقى الله فعلمه الله حتى بلغ درجة الإستنباط سر قوله تعالى {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [ النساء : 83 ]، وأن يكون أقرب الناس شبها برسول الله ﷺ في أقواله وأعماله وأخلاقه وآدابه وصدقه وصبره وإخلاصه ورحمته ورأفته، داعيا لله على بينة، سائرا في طريق رسول الله على بصيرة، كاشفه الله بعلوم الرسالة الخمسة وهي : علم الآيات، وعلم تزكية النفوس، وعلم الكتاب، وعلم الحكمة، وعلم الأسرار التي لا يعلمها إلا رسول أو وراث لرسول سر قوله تعالى {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [ البقرة : 151]. فإن لم يجد هذا المعلم لزمه أن يذكر الله كثيرا ويكثر من تلاوة القرآن ويتدبر في معانيه، فإذا وجد آية لم يعمل بها سارع بالعمل، وأن يقيم نفسه مقام المأمور والمُخاطَبُُ من العزة الإلهية لسواه، فلا ينظر لأسباب النزول ولا لخطاب الرسول إلا في خصوصياته التي خصه الله بها كتزويجه فوق الأربع وتحريم زوجاته على غيره ومثل ذلك من خصوصياته ﷺ ﷺ ، وما عدا ذلك فيسارع في تنفيذ كل أمر واجتناب كل نهي، فإن صدق في العزم وأخلص لله السريرة .. علمه الرحمن القرآن، وحفظه من الشيطان، وأدخله مقام الإحسان، فإن الذكر الكثير يخرج العبد من الظلمات إلى النور، من ظلمات الحيوانية والشهوانية والشيطانية، ظلمات الجهالة والضلالة وظلمات الغرور والشرور وظلمات الكبرياء والرياء. ولابد أن يكون الذكر خاليا من الشك والشرك، أي ملاحظا أن الله معك سميعا عليما قريبا مجيبا منزها عن الكيف والكم، عليا عن الإدراك والمثل، مع فقد حولك بحوله وعملك بعمله وتوفيقك بتوفيقه، فلا ترى لك طاعة ولا ذكراً ولا هداية ولا توفيقا .. حتى تسبح بروحك في مشاهد التوحيد العلية وترى أن الحي القيوم هو الذي قامت به النفوس والسماوات والأرض، ولا ترى في نفسك إلا أنك مظهر للتكليف ومحل لصدور الأوامر الإلهية، بذلك تحملك العناية على براق الذكر والتسبيح وتدخلك في الرحمة الخاصة إلى نور شهود المحسنين سر قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا $ وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا $ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّور} [الأحزاب : 41 – 43 ]. والنور أول مراتب الإحسان وفتق رتق بصيرة العرفان ، وهذا يكشف حجاب الكون ، وتشرق شمس الأسماء والصفات في حيطة الكائنات ، فتكون عابدا لله كأنك تراه ، إن نظرت إلى مرفوع شهدت سر الرافع ، وإن رأيت مخفوضاً لاحظت نور الخافض ، وإن رأيت حيا تحققت أن هنا سر الحي جل وعلا ، وعند ذلك ترى الكون بعد أن كان سماءً وأرضا من ماء وطين ، ترى كل هذا قد تبدل إلى مرائي لأسماء رب العالمين – قال سيد العارفين مولانا وإمامنا السيد محمد ماضي أبو العزائم مشيرا إلى هذا المقام :
تلك المظاهر والشئون مرائي فيها تلوح لمن صُفوا أسمائي
فالعارفون يرون سر تنزلي والجاهلون مرادهم آلائي
أي أن كل شيء في الأرض والسماء مرآة يظهر فيها إسم أو إسمان أو أكثر من أسماء الله تعالى، فترى مثلاً الحيوان مرآة ظهر فيها سر النافع الخلاق المصور الحي البديع، وكالشمس فهي مرآة أشرق فيها إسم الرافع النور النافع، وعند ذلك تنتقل من شهود الأسماء والصفات في حيطة الكائنات، إلى جمال ما فيك من أنوار باريك. فالإنسان هو المرآة الكلية والحيطة الجامعية والمظهر الذي جمع فأوعى، سر الأدنى والأعلى – قال تعالى في جمعه للأدنى ﷺ [التين : 5] وقال في جمعه للأعلى ﷺ [ آل عمران : 139] تشهد ما فيك من إحسان باريك.
مقام الإحسان :
أساسه الطاعة لأوامر الحكيم العليم، ومؤهلاته الإيمان بما ورد في القرآن والتصديق التام بما جاء به النبي ﷺ والعمل بأقواله وأعماله والتحلي بأحواله والتجمل بأخلاقه والتأدب بآدابه والمحافظة على وصاياه بكل دقة مع تنفيذها والعمل بها على الوجه الأكمل بعد التحري الدقيق وفهم واجب الوقت، لأن الرسول ﷺ جاء حكيما رءوفاً رحيما {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى $ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [ النجم : 3 & 4 ]. كانت أعماله بحسب الواجب الإصلاحي والنفع الفردي والإجتماعي تنقسم بحسب الإجمال إلى قسمين : واجب حكم، وواجب وقت :
فواجب الحكم : هو الأمر المستمر الدائم، كحكم الصلاة والزكاة والصيام والحج وما شابه ذلك.
وأما واجب الوقت : فدعوة الكفار مثلا في حالة الضعف بالحكمة، وفي حالة الإنذار بالشدة، وفي حالة القوة بالسيف. ومثل زيارة القبور، فقد نهى عنها عملا بواجب الوقت ثم أباحها عندما ذهب مقتضاها. وقد يتعارض واجب الوقت مع واجب الحكم فيقع الإنسان في اللبس وفي الضلالة لجهله مثل إجراء صلح، وإقامة صلاة جمعة لأهل بلد أو قرية بينهم شقاق أو نزاع أو دم يؤدي اجتماعهم إلى شر أو قتل فيكون تقديم الصلح هو واجب الوقت ويقدم على حكم الوقت وهو فرض الجمعة.
فمقام الإحسان : هو نور كشف يعطى لأهله يفرقون به بين خير الخيرين فيختارون خيرهما , وشر الشرين فيأخذون عند الضرورة بأقلهما، وهم أهل الاستنباط من كتاب الله وسنة رسول الله ﷺ .
علامات أهل مقام الإحسان :
وأظهرها وأجلاها : عشقهم للحكمة وحبهم لأهلها وتفانيهم في خدمة العلماء ونصرة الحكماء، إن رأوا عالماً عظموه، وإن قال استمعوا لقوله وأطاعوه، فإن وجدوه على مزيد من المعرفة لزموه – وإلا تركوه وفارقوه. مرادهم عارف يكشف لهم عن معاني كلام ربهم ويجلي لهم سر إيجادهم وإمدادهم. إن كانوا في عصر نبي أو رسول كانوا أنصاره، وإن كانوا في عصر وارث أو ولي كانوا خدامه وأعوانه، لا ينسون الله في جميع أعمالهم، لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكره، ولا يشغلهم أي شاغل عن أمره، حنينهم في جميع أوقاتهم وشوقهم في كل لحظاتهم أن يفوزوا بشهود وجه ربهم.
هذا موسى بن عمران آية من آياتهم لم يكتف بالكلام من شدة الوجد والغرام .. فنادى {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [ الأعراف : 143 ] فصعق من تجلي الملك العلام، وهذا الخليل عليه السلام لم يكتف بالإيمان بل طلب الشهود والعيان، وأن يرى ببصره الكيفية في إحياء الخلق بيد القدرة العلية. وهذا داود فر من الخلق معتكفا لينال شهود وحدة الصفا، وكل رسول أو نبي أو ولي مراده رؤية الوجه العلي.
وأهل الإحسان في كل حين على صراط الأنبياء سائرون، ولذا ترى في محكم الكتاب المبين بعد ذكر مقامات الأنبياء والمرسلين قول الله تعالى {وَكَذَلِكَ نَجزِى المُحسِنِينَ} [ المائدة : 85 ]. فأهل الإحسان هم صور الأنبياء وأبدالهم، وأنصار المرسلين ونوابهم، المؤهلون للقيام بدعوة الرسالة، قد جعلهم الله وراث المصطفي وأبداله الذين حفظ الله بهم رسالته من التغيير والتبديل وحفظهم في التنزيل والتأويل، فهم بالله محفوظون وبشرع المصطفى قائمون سر قوله تعالى {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [ الحجر : 9 ]. ولهم صفات لا تعد ولا تحصى وأحوال لا تحد ولا تستقصى، وهم درجات فوق درجات ومقامات فوق مقامات – قال تعالى في محكم الآيات {وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [ المجادلة : 11].
وصف أهل الإحسان في آيات القرآن :
قد وصفهم الله تعالى في القرآن الكريم وبين أعمالهم وأحوالهم وأخلاقهم وآدابهم، وذكرهم في مائتين من الآيات تقريباً، فمن تلى تلك الكلمات وتدبر تلك الإشارات وقام بمقتضاها خير قيام .. رقى بفضل الله لأعلى مقام. وسنذكر ونبين بمعونه الله كل معنى من تلك المعاني ووصفا من تلك الصفات في هذه الآيات لأن القرآن تبيان كل شىء ولم يفرط الله فيه من شيء، وسنسير في تلك المقامات على ترتيب ما في المصحف من آيات، مبتدئين من سورة البقرة مختتمين بسورة التين لأنها آخر سورة ذكر الله فيها كلمة الإحسان – نسأل الله تعالى أن يمنحنا حسن البيان.
(1) صحيح مسلم : عن شداد بن أوس : كتاب الصيد : 3615
يجب التنويه إلى أن الأحاديث النبوية الشريفة التي رواها الأئمة في صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وسنن الترمذي، وسنن النسائي، وسنن أبي داود، وسنن ابن ماجه، ومسند أحمد، وموطأ مالك، وسنن الدارمي .. تم تخريجها من أسطوانة ” موسوعة الحديث الشريف – الكتب التسعة – صخر ” الإصدار الأول {1,1} 1991 – 1996 شركة صخر إحدى شركات مجموعة العالمية . وترقيم الأحاديث المستخدم هو حسب ترقيم العالمية . والأحاديث التي لم توجد في الكتب التسعة السابقة فقد تم تخريجها من الأسطوانات الخاصة بــ : المكتبة الإسلامية الشاملة . والمكتبة الشاملة – الإصدار الثاني . وكتاب جمع الجوامع للإمام السيوطي .
ونحيط علما بأن قصائد سماحة الشيخ عبد الباسط القاضي المكتوبة عند آخر كل شعبة من شعب الإحسان قد تأجل وضعها في مكانها لحين الإنتهاء من مراجعتها وضبطها بواسطة أخصائيي الشعر .
(1) صحيح البخاري : عن أبي هريرة : كتاب تفسير القرآن : 4404