سر خلق هذا الكون
وحكمة ايجاده وابداعه
أحببت قبل أن نتكلم فى حكمة الأحكام وأسرار التشريع أن أضع مقدمات لابد منها فى الدخول على هذا الموضوع الهام . وهى حكمة خلق هذا الكون قبل خلق الانسان , وتحصينه بالأحكام .
ولما كان هذا الموضوع متسع المجال , واسع المقال , أردت أن أتكلم فيه بايجاز لنوال المراد .
ان الحكيم جلت قدرته , وعلت حكمته , أراد أن يظهر , وشاء ان يعرف وهو العلى العظيم , فخلق عالم العلة ليظهر رافعا , وخلق عالم النور ليعرف نورا هاديا , وخلق الماء ليظهر حيا لطيفا , وخلق العرش العظيم ليعرف عظيما , وأوجد الكرسى المحيط ليعرف محيطا بكل شئ , وخلق عالم السفل ليعرف خافضا . والسموات وما فوقها دلت على أنه العلى الرافع , والأرض وما تحتها دلت على أنه الخافض الباسط , وظهور ما فى الجميع دل على أنه النور الظاهر ( الله نور السموات والأرض([1]) ) وخلق الملائكة والأرواح ليظهر لطيفا هاديا , قويا قادرا بديعا فتاحا وليا .
كل هذه المخلوقات من أرض وسموات , وما فيها من أرواح عاليات , لم تقم بكمال الظهور , واتمام اشراق شمس الظاهر الغفور (( انا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها([2]) )) .
وارادة الله بدءا متعلقة باتمام الظهور , وإشراق شمس كمالات النور , فما خصصته الارادة بدعا , أبرزته القدرة ختما .
ففى بدء البدء , وقبل القبل , شاء الأول جل وعلا أن يظهر فى الوجود صورة تكون دالة على وجوده , وجماله وجلاله وكماله وبهاءه وضيائه وأسمائه وصفاته , وقدرته وحكمته , وعلمه ونوره , وظهوره وبطونه , وسمعه وبصره وكلامه وحياته وارادته ومشيئته , وبالاجمال أحب الحق أن يظهر خليفة عنه , به يظهر وبه يعرف , ويكون مثلا أعلى يدل عليه , لأن ظهوره بذاته مستحيل للاشياء وكيف يظهر لها , وهو ليس كمثلها أو لا من نوعها , ولا يدرك لها , وليس منها ششئ يحيط بكنه ذاته , ولا بحقيقة أسمائه وصفاته , فهو على عن الحقائق خفى عن الدقائق والرقائق , وهو مع ذلك أظهر من الظهور , وأجلى من الضياء والنور .
كل هذا وذاك اقتضى تعلق الأسماء والصفات بابراز حقيقة تكون رمزا مشيرا , وسراجا منيرا , ودالا خبيرا , يدل على هذه الذات , بما فيه من آيات بينات .
قدرة القدير , وحكمة الحكيم الخبير , فنفذت القدرة ما تعلقت به الارادة وأبدعت الحكمة ما خصصته المشيئة , (( انما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون([3]) )) فخلق الله الانسن ليكون مظهرا لظهور الرحمن . هنا ظهرت حكمة خلق السموات والأرض , وإيجاد الدنيا والآخرة .
فالموجودات جميعها خلقت قبل الانسان , لتكون مسكنا ومقرا له ومعاشا لضروراته وكمالاته , لأنه خليفة عظيم , عن رب على عظيم , وبقدر عظمة العظيم تكون عظمة الخليفة القائم عن العظيم .
من هنا وقع الاختيار , من الكبير المتعال , على هذا الانسان فى علمه القديم فبنى له هذا الوجود وما فيه بيتا لتربيته وتعليمه وتهذيبه وتثقيفه وتأديبه , ثم خصص له مقرا أخيرا لا كرامه وتشريفه , واعلاء شأنه فى الدار الآخرة اذا حصل شهادة الخلافة عن من أقامه , وأطاع أوامره وأحكامه . أو لاهانته وتعذيبه , وعتابه وتأنيبه , اذا سقط فى الامتحان وخالف الرحيم الرحمن .
خلق الله هذا الوجود الأول مدرسة إلهية للتعليم والتربية , ولظهور أسمائه وصفاته الجلية , وأرسل الرسل مبشرين ومنذرين , ومهذبين ومؤدبين , ومعلمين ومدرسين , فكانوا بمثابة مدارس أولية , حتى تمت الدورة التعليمية الابتدائية , وشاءت الحضرة الالهية , أن تفتح أبواب الكلية المحمدية .
فأبرزت المعلم الفاتح الخاتم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فجاء بالظهور الكلى , والبطون الأزلى , فبظهوره كان مثلا للظاهر , وببطونه ومعناه كان مثلا للباطن , وبأوليته كان مثلا للأول , وبآخريته كان مثلا للآخر , فصار مثلا أعلى للأول والآخر , والظاهر والباطن , وكان محلا لقوله تعالى (( ولله المثل الأعلى([4]) )) وهو المشار اليه فى آية سورة النور , فى قوله العزيز الغفور (( مثل نوره كمشكاه فيها مصباح([5]) )) فسبحان المعطى الوهاب الكريم الفتاح أشرقت كمالات اللطيف الخبير , ورحمة السميع البصير , عند ظهور شمس البشير النذير .
وهنا جاء بالأحكام من عند الملك العلام .
حكمة علية , وأسرار لدنية , ومظاهر ربانية , نسأل الله تعالى المعونة على بيان مراده منها رحمة للعباد , وحجة على أهل الضلال والفساد , حتى نكون به له قائمين , وبخلفائه السابقين متشبهين , وبالمصطفى صلى الله عليه وسلم مقتدين , وهو حسبنا ونعم الوكيل نعم المولى ونعم النصير .
(1) سورة الأحزاب 33 / آية 72 .