أمر الله تعالى رسله الكرام , وأنبياءه العظام , وأمر المصطفى عليه الصلاة والسلام , أن يعلم ويعلم التوحيد بلا لا اله الا الله , فقال وهو أصدق القائلين (( فاعلم أنه لا اله الا الله([1]) )) وقال سبحانه (( فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا اله الا هو([2]) )) وقال جل وعلا (( شهد الله أنه لا اله الا هو والملائكة وأولو العلم([3]) )) أمر الله سبحانه وتعالى بتعليم لا اله الا الله ليخرج الانسان بها من ظلمات الستائر الكونية , والخيالات الحسية , والأوهام الانسلنية , الى فسيح رياض الجنان الملكوتية , ومنها الى تجليات الأسماء الالهية , والصفات الربانية , ثم الى مجلى الكمالات القدسية , ومنها الى نزاهة قداسة الذات الأحدية , بعد فك رمز الواحدية والوحدانية .
فالانسان كلن بدءا قى الحضرة الالهية شاهدا سامعا يرى أنوار ربه بنوره الروحانى , وسره كلامه بسمعه الصمدانى , وضيائه الرحمانى , وبهائه الاحسانى , شاهدا مشهودا آنسا بالمكالمة , صاغيا للمخاطبة , قريبا بالقريب من الرقيب , سمعيا للسميع بالسميع , بصيرا للبصير بالبصير .
باطنا بالباطن لا ظهور له , أولا بالأول لا آخر له , واجهه الحق فى أول الخلق وقال له (( ألست بربكم([4]) )) ؟ فأجاب الخطاب , ورد الجواب قائلا (( بلى([5]) )) وهنا أخذ الله عليه العهد والميثاق , قبل ابرازه فى دوره الآفاق .
ان لايشرك به شيئا , وان لا يحجب بالفرع عن الأصل , ولا يشغل بالفصل عن الوصل , ولا يشرك الحجاب بالوهاب([6]) , ولا الآباء , برب الأرض والسماء , قائلا سبحانه (( أن تقولوا يوم القيامة انا كنا عن هذا غافلين , أو تقولوا انما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم )) .
ثم من بعد ذلك أبرزه فى عالم الوجود , فستر بالأعداد , عن رب الحس لعالم الكون والأنس , وسمع بسمع الآذان , أصوات الحيوان والانسان , وسجنت حقائقه المعنوية النورانية , فى هيكل البشرية الآدمية , فلم ير الا فعلا لخير البصير , وخبرة القادر المتعال , وسمعا لخير السميع , وبصرا لخير البصير , وخبرة لخير الخبير , وحكمة لخير الحكيم , ورزقا لخير الرزاق , وعلما لخير العليم , وارادة لخير الواحد القهار .
فالتبس عليه العدد , بالواحد الأحد الفرد الصمد , الذى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد , ونسى بالفرع أصله , وبالفصل وصله , فبعد أن كان يشهد الفاعل المختار النافع الرافع المعطى الوهاب واحدا أحدا ولا يرى الا القريب الواحد الأحد , صار يرى ذلك فى الخلق والعدد , لذلك أرسل الله الرسل وفرض عليهم تعليم لا اله الا الله , ليكتشفوا بها الغطاء عن عباد الله , ويعيدوهم الى توحيد الله .
حتى تأهلت العقول ونضجت الأفهام , واستعدت للخروج من الخيالات والأوهام أرسل الله المصطفى عليه الصلاة والسلام بسراجه الوهاج , وببراقه الموصل والمعراج فبدد ظلام الكفر والشرك , والريب والشك , ورفع علم التوحيد فى الآفاق , حتى تجاوز السبع الطباق , ورأى بعينه أنوار الخلائق (( دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى([7]) )) أبرز شمسها وأجلى ضحاها , وبين خافيها ونشر ضياها , فأبصرت الانسانية التى قبلت التعاليم المحمدية , أنوار الذات العلية , فلم تر لله فى الأكوان شريكا يوجد , ولا معبود سواه يعبد .
فحكمة شهادة ان لا اله الا الله هو الرجوع الى الرحيم الرحمن , من ظلمات الشرك ومظاهر الأكوان , والخروج من سجن الضلالات , الى فسيح معرفة اله الكائنات .
وأنى أضرب لذلك مثلا يقرب المعنى ..
مستوطن خرج مهاجرا من وطنه ومسكنه وأهله لعمل هام يلزمه , وضرورة قصوى تكمله , وطالت غيبته حتى نسى الأوطان والأهل والعشيرة والجيران , ولكن والده رءوف به رحيم يريد رجوعه إليه , ويحب أن يعيده إليه , مجملا ومكملا الى وطنه الأول , ليأنس به لديه , فأرسل له بعد اتمام مهمته , وكمال حاجته رسولا يذكره ودليلا يرشده الى محل اقامته , وموطن قرابته , ويعرفه بأصله الأول , حتى يعود إليه بالكمال الأكمل , ولا يشغل بالغربة , عن دار الاقامة والقربى . ولا ينسى ويكفر بالأصل , لاشتغاله بالفرع والفصل .
فالوطن الأول هو الله , والمهاجر هو الإنسان , من عالم القرب والأنس والحنان الى ظلمات الأكوان , ليتجمل فيها بسر الخلافة ةالظهور , لا ليشغل بالمظاهر عن الظاهر .
فلما نسى عهد الخلاق فى الأفاق , ارسل الله رسله اليه , ليردوه به اليه , وليذكروه بعهد لا اله الا الله ليستعد بعد الكمال لرجوعه الى الله , ولا يختار سواه , فلا اله الا الله سراج الطريق , ونور التحقيق التى تكشف الدين عن قلب الانسان , ليرى الأكوان أكوانا , والرحمن رحمانا , والألوان ألوانا .
رأى أنوارها آدم عليه السلام فسجدت الملائكة لنورها المشرق فيه , شهد ضياءها نوح عليه السلام فصوب سهم سرها للأرض والسماء , فأغرق أهل البغى والكفر والشقاء .
ذاق رحيقها ابراهيم الخليل , فلم ير فى محنته نارا ولا زمهريرا , فأطفأ النار بأنوار القادر الستار , لأنه رجع بأنوارها الى وطنه , وغاب فى حصونها بكله , فلم تؤثر فيه الأكوان , لأنه صار عند الرحيم الرحمن .
كذلك موسى وعيسى وجميع النبيين والصدقيين والشهداء والصالحين خرجوا بها عن الأكوان وسجنها , فكانوا مع ربهم شاهدين , ولديه مقربين , فأظهروا المعجزات الخارقات , والكرامات العاليات , لا بأنفسهم أظهروها , ولكن بنور الله وقدرته أبدوها .
فلا اله الا الله هى دليل الحائرين , للرجوع لرب العالمين , وهى شمس الهداية لمن يريد الولاية , وهى نبراس السائرين , لأرحم الراحمين .
فعلمها فرض لازم , والعليم بها خليفة عن ربه قائم وبه عالم , ومن جهلها فهو حيوان بل أضل من الأنعام([8]) , فهى شجرة الوجود , التى منها وبها قام كل موجود , فى الأرض والسماء , وهى شجرة جميع الصفات الألهية والأسماء , التى ظهرت بها الأرض والسماء والأنسان شجرتها الكاملة , وصورتها المجملة من عرفها عرف ربه , ومن جهلها جهل ربه , وهى الكلمة الطيبة التى أصلها ثابت وفرعها فى السماء .
وقد فصلت شيئا من معانيها فى شعبة الذكر فى كتاب الشعب([9]) , أسأل الله تعالى أن ييسر طبعه ونشره .
فحكمة فريضة معرفة لا اله الا الله , هى نجاة الانسان من الخسران , ومن اتخاذه الها غير الله , ويتأدب بآداب تليق بالدخول لحضرة الله , فيعود من أطواره الكونية , وهجرته الدنيوية والبرزخية الى حضرة الالهية , لابسا حلل المعية , مصبوغا بالصبغة القدسية وصالحا لجلوسه وآنسه بربه فى مقعد صدق عند مليك مقتدر , وهنا نمسك القلم عن التطويل خوف ضياع المقصود , والمؤمن تكفيه قليل الحكمة .
(3) سورة آل عمران 3 / الآية 18 .
(5,4) سورة الاعراف 7 / الأيتان 172 , 173 .
([6]) ( لا يشغل بالفصل عن الوصل لا يشغل بالحياة الكونية عن آداء حقوق الربوبية ولا يشرك الحجاب بالوهاب ) فيحجب بتعدد الآثار والمظاهر عن شهود وحدة الظاهر فآيات الظهور فى الآفاق وفى النفوس بمثابة المرائى والأواسط تلوح فيها أسماء الظاهر سبحانه كما بين الامام فى الفصل السابق ( فخلق عالم العلو ليظهر رافعا وخلق عالم النور ليظهر هاويا .. الخ ) فمن شغل بالآيات عن رب الآيات وبالمظاهر عن سر الظاهر حجب وفتن قال تعاالى ( انما نحن فتنة فلا تكفر ) ومن شهدها آيات تلوح بها تجليات الواحد هدى الى نور التوحيد رغم مظاهر التعدد ولم يستر بالأعداد عن رب العباد كما شرح الامام بعد ذلك قال تعالى (( سنريهم آياتنا فى الافاق وفى أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد )) . وتجدد فى مواجيد الامام محمد ماضى أبو العزائم شيخ الامام المؤلف كثيرا من هذه الحقائق التوحيدية الخالصة كما يقول :
تلك المظاهر والشئون مرائى فيها يلوح لمن صفوا اسمائى
كما يقول : غاب عن عينى بمعناه العلى وتراءى لى بذا الأثر الجلى
فعيون الرأس تشهد مظهرا وعيون السر شاهدت الولى
(1) سورة النجم 53 / الآية 8 , 9 .
(1) المعنى فى قوله تعالى (( أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون ان هم ألا كالانعام بل هم أضل سبيلا )) الآية 44 من سورة الفرقان 25 .