أن الله قد أمر المصلى قبل أن يقف فى الصلاة بين يديه أن يغسل أعضاء جسده العاملة فى بدنه من كفين ووجه ويدين , ومسح رأس وغسل رجلين , وبين الرسول العليم بمراد الحق جل جلاله كيفية الغسل والمسح وطريق استعمالها , وسن سننا فى القيام بها من أذكار قولية , وأعمال بدنية , مثل الاستعاذة والتسمية , والمضمضة والاستنشاق , وغير ذلك , ليعرفنا حكمة الحكيم , ومراد اللطيف الخبير من هذه الأحكام الالهية والتعاليم الربانية , وأشار القرآن اليها مبينا منافعها , وحكمها وحكمتها , ولكن علماء هذا العصر وقفوا عند أسمائها وكيفيتها ولم يبحثوا فى سرها وفوائدها .
إن للوضوء والتيمم حكمة بالغة وفائدة جامعة , من فقه سرها , وعرف حكمتها من كتاب الله عرف قدر أوامر الله على قدره وقدر ما ينكشف له من معانى أوامر ربه .
فاصغ لى أيها المؤمن بأذن فكرك وسمع قلبك حتى تنتفع بحكمة الحكيم جل وعلا.
ان الله سبحانه وتعالى أمرنا قبل الدخول فى الصلاة بمباشرة عنصر الماء , وأن نغسل به الأعضاء , فان فقدنا هذا الماء , أو عجزنا عن استعماله , أوجب علينا أن نتطهر بالتراب , ونجعله محل الماء , والفرق بين العنصرين بعيد , فالماء يغسل وينظف ويطهر , والتراب بعكس ذلك , لا يغسل عضوا ولا ينظف أوساخا , بل يزيد الأعضاء قذارة .
فما الحكمة فى ذلك والآمر هو الحكيم الخبير .
أما نظافة الماء للأعضاء فأمرها واضح للانسان وظاهر للعيان , ولكن فيها غوامض من الأحكام , مثل رجل خرج من الحمام نظيف البدن فمس امرأة , أو خرج منه ريح أو مس فرجا فالحكم عليه باعادة الوضوء أمر غريب , وأغرب منه وأعجب ان لم يجد ماء فيكون الحكم عليه باستعمال التراب بدل الماء .
أحكام علية وأسرار لدنية , وحكم قدسية , اذا لم تكشف الحكمة سرها ولم تبين للعقل أمرها زل العقل وشك فى الحكم وسقط فى لجة الجحود كما هو الواقع فى هذا العصر من طبقة الشباب الذى درس علوم المادة وادعى أنه بلغ أقصى درجة فى المعرفة والحكمة , وحكم على الاسلام وأحكامه بعلمه القاصر وعقله الكاسد , ورأيه الفاسد .
ارجع معى أيها المؤمن الى آيات القرآن , ترى السر واضحا بالبيان , واقرأ آية الوضوء ترى أنوار الحكم وأسرار الحكمة أوضح من شمس النهار , وانى أبين لك معناها قبل أن أتلو عليك لفظها ومبناها .
ان الوضوء والتيمم جعلهما الله مقدمات تتقدم الصلاة , وهى ذكر وشكر , والماء والتراب عنصران فيهما أسرار المنعم وفضل المعطى الوهاب , فالماء منه كل شىء حى , والتراب فيه آيات اليقين وخيرات الحنان المنان والحق جلت قدرته , وعزت حكمه , أمر الانسان قبل أن يقف للصلاة ليذكر الله ويشكره أن يباشر أحد المخزنين العظيمين , مخزن الماء أو التراب ليرى بجميع جوارحه نعم الله عليه , وآياته الظاهرة بين يديه , ليذكر الله عن شهود , ويشكره بعد عيان ووجود .
فليس الوضوء والتيمم قاصران على غسل الأعضاء ومسحها , ولكنهما يشيران الى شهود جمال منعم حى قادر رزاق بديع صانع مدبر مصور لطيف , وهاب رحيم رحمن منان قريب مجيب الى غير ذلك من آيات قدرته وابداع صنعته , التى أبرزها وخزنها وأوجدها فى عنصرى الماء والتراب .
ألم تر أيها الانسان أن جميع النعم والعطايا والخيرات والهدايا كلها من الماء والتراب ولما كان الماء فيه روح الأفضلية وهو المكمل لعنصر التراب قدمه الله فى الطهارة على التراب ليكون المشهد أقوى والتذكرة أتم وأكمل ليقوم المؤمن فى الصلاة ذاكرا شاكرا لأنعم الله .
وهنا نتلو الآية لتظهر لنا الحكمة والرعاية , قال تعالى .. (( يا أيها الذين آمنوا اذا قمتم الى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم الى المرافق وأمسحوا برءوسكم وأرجلكم الى الكعبين وان كنتم جنبا فاطهروا وان كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحدكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا , فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج , ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون( ) )) .
فابتدأت الآية تبين الحكم وكيفيتته من غسل وطهارة حسية ومعنوية وختمت الموضوع ببيان الحكمة المقصودة من هذا التشريع السماوى الالهى , لأن الشكر ثناء على نعمة مشهودة للشاكر من المنعم جل جلاله , وأم النعم وأبوها وأصولها هو الماء والتراب , وبمباشرة الماء أو التراب تذكرة للنعم جميعها , والقيام بالشكر لموجودها ومبدعها , والشكر يقتضى من الله المزيد والاتمام .
قال تعالى (( لئن شكرتم لأزيدنكم( ) )) والمزيد هو المراد من قول الله فى حكمة الوضوء والتيمم (( وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون )) .
وهنا خرجنا من حكمة الوضوء والتيمم بفائدة حسية بدنية , وحكمة عقلية نقلية , وحكمة روحية الهية , فأما الحكمة الحسية البدنية فهى الطهارة المائية أو الترابية , لأنه ثبت أن التراب مطهر للماء ومزيل ( للميكروبات ) العفونات , وأما الحكمة العقلية النقلية فحكم العقل فيها أن الشاكر لا يقوم بالشكر حقا الا بعد معاينة العطاء الذى يشكر المعطى عليه .
وأما الحكمة الروحية الالهية فهى شهود أنوار الشكور ظاهرة أمام المصلى تريده فوق نعمة الأجسام نعمة القرب والحب والمؤانسة والمكالمة سر قول تعالى …
(( وأسبغ عليكم نعمة ظاهرة وباطنة( ) )) .
هذا وان فى الوضوء والتيمم أسرار غريبة وحكما عجيبة , ففى كل ذكر من أذكاره معان , وفى كل حكم من أحكامه غرائب , وفى كل حكمة من حكمه غيوب , ولا عجب فأنه أمر من أوامر علام الغيوب , وفيه من الآيات والاشارات ما ليحيط بها عوالم الكائنات , لأنه استعداد للوقوف أمام رب العباد ليخاطبه بكلامه خطاب القريب للقريب والسميع للمجيب , وفيه خروج من عوالم الجمادية للنباتية للحيوانية للانسانية للملكوتية للروحية للقدسية مسموعة بسمع السميع ونداء الحق لحظوة القرب لمقام عبد دعاه مولاه , فسمعه ولباه , فتطهر من دنياه وأخراه , حتى رأى بعين قلبه ونور قربه وجه الله .
دعنى أيها المطلع وأحكم معى أن أمر أحكم الحاكمين فوق ادراك العالين ولا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين الجاهلين بعظمة رب العالين ( ان فى ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو القى السمع وهو شهيد( ) ) .
شرح وتفصيل :
وهنا نشرح شيئا من الاجمال خوفا من اللبس فى الفهم وجهل الحكمة فنقول :
( أ ) (( الطهارة الجمادية والخروج منها )) .
هى أن تطهر ما فيك من معانيها وهو الركود والكسل , الذى استعاذ منه سيد البشر( ) .
( ب ) وأما الوضوء من الصفات النباتية والتطهر من معانيها النوعية , والانسان نبات وله زوائد , والنبات لا يأتى بالثمر الا بعد زوال تلك الزوائد , وحوله حشائش لا ينفع الا بعد تنظيفها .
فكذلك لا تكون طاهرا الا بعد طهارتك من الزوائد العنصرية , والحشائش الأخلاقية والبعد عن المضللين , والادعياء المجرمين , بأن تفر منهم لرب العالمين.
( جـ ) وأما الطهارة من الحيوانية : فهى الفرار من صفاتها , وهى الطمع والجشع والحرص وحب الذات , والجهالات وكل الصفات الحيوانية .
( د ) وأما الطهارة من الصفات الانسانية : فهى الكبر والرياء والشك والشرك والكفر والغرور وكل ما فى ذمة القرآن بقوله ( قتل الانسان ما أكفره( ) ) ومثل قوله (( يا أيها الانسان ما غرك بربك الكريم )) وغير ذلك من الصفات الانسانية الممقوتة .
( هـ ) وأما الطهارة من الحقائق الملكوتية : فهى التخلى عن شهود العمل من تسبيح وتقديس وكل أنواع العبادة , سر قوله تعالى (( ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك( ) )) .
( و ) وأما الطهارة من الحقيقة الروحية الى الصفات القدسية فهى التحقق بشهود لا حول ولا قوة الا بالله علما وذوقا بعد علم مقام التنزيه والتشبيه , وفقه ( اياك نعبد واياك نستعين( ) ) .
وهنا يرى المصلى بعين سره نور المعين المعبود , ظاهرا له فى جميع الوجود , فسبحان من أنزل على حبيبه ومصطفاه ( انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا( ) ) وهنا نقف عند ساحل بحر الطهارة حتى يأتى معراج الرسول , وتأتى سفينة النجاة , فنجتاز بها هذا البحر المحيط العظيم ونعرج على رفرف ( دنا فتدلى( ) ) مقام القرب والطهر لحظوة قوله تعالى (( واسجد واقترب( ) )) وخلوة جذوة قول الحبيب المحبوب عليه الصلاة والسلام ( وقرة عينى فى الصلاة( ) ) وقوله صلى الله عليه وسلم ( أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فيسأل ما يشاء( ) ) .
وقوله سبحانه ( وانها لكبيرة الا على الخاشعين( ) ) ولما كانت الصلاة عظيمة كان كل شىء يتصل بها عظيما والطهارة أساسها , فتكون الطهارة عظيمة بقدر عظمة الصلاة والطهارة أمر من الله العظيم , وكل أمر من العظيم عظيم .
نسأل الله أن يلهم القلوب فقه الطهارة لمواجهة الحق اذا عجز البيان من اللسان لأنه هو الرحيم الرحمن , وهو الذى يجيب دعاء المضطر اذا دعاه وهو على كل شىء وكيل .