ان الله جل جلاله وتقدست أحكامه شرع الآذان بطريق الرؤيا والالهام , لتطمئن قلوب الأولياء أن لهم قسطا من ميراث رسول الله وأنهم يتلقونه بالالهام بقلوبهم من ربهم حال المنام واليقظة .
لأن الآذان لم يأت بطريق الوحى لرسول الله , ولكنه جاء من طريق الالهام والرؤيا لبعض الصحابة بعد عقد مجلس للشورى كانت الصحابة فيه مع النبى صلى الله عليه وسلم يتشاورون فى كيفية دعوة المسلمين للصلاة , فبعضهم راى أن توقد نارا , فلم يقبل النبى صلى الله عليه وسلم ذلك , وقال ان هذا فعل المجوس , وغيره قال نضرب بوقا فأبى النبى صلى الله عليه وسلم وقال هذا فعل اليهود , وبعضهم رأى غير ذلك وباتوا جميعا على غير اتفاق , فلما أصبحوا وقد رأى بعضهم ملكا يذكر الآذان , فأخبر النبى عليه الصلاة والسلام بتلك الرؤيا فأقرها وأمر الرائى أن يلقن ما راآ لسيدنا بلال , وأعتبره وحيا من الله تعالى ودينا يدان به المسلمون , وجعله شعارهم الى يوم الدين([1]) .
اننا لو تدبرنا فى صيغة الآذان , وما حوته من معان عاليات , وحكم بالغات , لحكمنا أن هذا الدين قوى الأركان محفوظ الجوانب سليم البنيان لم يتطرق اليه أى خلل , ولم يصل له أى اختلاف , قال تعالى * (( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا([2]) )) .
صيغة يراها صحابى مؤمن فى عالم الرؤيا تصل الى هذه الدرجة , وتكون شعارا عالميا يتردد صداه فى ربوع المعمورة فوق كل منارة على مسمع من الكافرين والمنافقين والحاسدين والمعترضين , فتدك أعناقهم لعظمتها , وتخضع رؤوسهم لبلاغتها , وتذل جميع الجبابرة لصولتها , وتقف الحكماء حيارى لأسرارها وحكمتها , وللآن وفى كل يوم يظهر من معانيها وأسرارها ما يدهش العقول , ويسكر الألباب .
واليك أيها القارىء بعض ما تلقيته من فيوضات الوارث قدس الله سره مولانا السيد محمد ماضى أبى العزائم فى معانى الآذان وحكمته .
ان الله جلت قدرته , وسمت حكمته أرسل خاتم النبيين معلما وقائدا واماما وهاديا ومرشدا ورسولا ليبلغ الناس ما يحبه الله تعالى من عباده وما يجب أن يقوموا به من الأقوال والأعمال والاحوال والآداب والمعاملات , وأمره سبحانه أن يتخذ لهم مكانا للاجتماع ليسمعوا منه تلك التعاليم الالهية , والأسرار الربانية , فأراد أن يضع لهم دعوة يدعوهم بها وقت الدرس والعبادة , واشارة يعرفون بها ساعة الاجتماع , فكان التوفيق رائد الجميع , والهداية تحيط هذا الجمع الفاضل , والعناية أمام كل واحد منهم , لأنهم اجتمعوا مع هذا القائد الرحمانى لرحمة العالم وانقاذ الانسانية من الهلاك الأبدى والخسران السرمدى .
ظهرت هذه الولاية الالهية بأنوارها مضيئة فى شعارهم صائحة فى الآفاق قائلة .. الله أكبر .. الله أكبر ..
ما هذا النداء .. ؟ وما المراد منه .. ؟ وما حكمته .. ؟ ينادى صوت الحق على لسان أحد الخلق قائلا يا أهل الاعمال من تجار وصناع وزراع , ويا أيها الحكام من رؤساء ومرؤسين , ويا أيها الملوك والوزراء والأمراء , ويا من شغلتم بالدنيا وزخرفها , كل ما أنتم فيه صغير حقير فاتركوه وسارعوا لعبادتى فأنا الله أكبر الله أكبر , ثم يعقب هذه الجملة بجملة ثانية قائلا أشهد أن لا اله الا الله , ما هذه الجملة وما المراد منها , وهى أيضا ليس فيها معنى النداء ومعناها الواضح ولفظها المبين أن الله يشعر خلقه وينبه عباده قائلا لا تخافوا على فساد أعمالكم , ولا كساد تجاراتكم ولا ولاية تتولونها , ولا رعاية ترعونها فلستم آلهة تحفظون , ولا أربابا تتولون , وانى أنا الله لا اله الا أنا ولى كل شىء , وحفيظ على كل شىء , ورازق كل شىء , فاتركوا كل شىء وتعالوا الى من بيده ملك كل شىء وملكوت كل شىء , ثم يردد ذلك مؤكد مرتين مرتين , ويقول أيضا مرددا , أشهد أن محمدا رسول الله ما المراد من ذكر هذه الشهادة فى هذا الشعار , المراد رفع قدره صلى الله عليه وسلم , لأن الله وعده أن يرفع ذكره , ويعلى قدره .
ومن حكمتها وذكرها فى الآذان اشارة علية الى أهل النفوس الزكية , والأذواق العالية الروحية , وكأن الله تعالى يقول كل من يحب أن يزورنى فى بيتى , ويريد أن يحضر لعبادتى , فليتشبه برسولى ونبيى محمد رسول الله من طهارة وتواضع وعبودية وخضوع وخشوع وسكينة ووقار .
وكل من جاءنى وقد أنقص من فعل النبى ولو غسل قدر فتيل أو نقير من جوارحه لا أقبل صلاته ولا شيئا من عبادته , ولذلك أعقب شهادة الرسول بقوله حى على الصلاة , يعنى اذا تركتم كل شىء وأقبلتم على الله وتشبهتم برسول الله فهلموا عند ذلك للصلاة , ثم أراد جل جلاله أن يبين حكمة هذا النداء وسر هذه الدعوة , فقال حى على الفلاح أى أن فى حضوركم وصلاتكم ودعوتى لكم للعبادة فلاح ونجاح لكم وفوز عظيم , ثم بعد ذلك أعاد لفظ التكبير والتعظيم قائلا , الله أكبر الله أكبر , ما حكم هذه الاعادة وهذا التكرار وهو الحكيم الخبير .
ان الاعادة والتكرار لا يكونان بغيرفائدة عظيمة لأنه أمر عظيم صادر من العظيم جل وعلا , وحقا انها لفائدة كبرى وحكمة عظمى , وهى رمز الرموز وكنز الكنوز , ونهاية السعادات , ومنتهى الخيرات والبراكات , وهى كالآتى ..
بعد أن نبهنا جل جلاله أنه أكبر من الكون فتركنا الكون , وعرفنا بأنه المتصرف فى كل شىء واله كل شىء فصدقناه ولبيناه , وأرشدنا لاتباع النبى صلى الله عليه وسلم فاتبعناه , ونادانا للصلاة فأطعناه وعبدناه , عرفنا بأن فى ذلك فلاحنا , وفوزنا ونجاحنا فأحببناه , فأشار لنا اشارة قدسية , وأيقظ همتنا الى درجة علية قائلا يا عبادى أنا أكبر من كونكم , وأكبر من نبيكم , وأكبر من صلاتكم , وأكبر من فلاحكم , فلا تقفوا عند أكوان ولا عند أعمال , ولا عند فلاح , فكل ذلك أغيار , وأنا الكبير المتعال , فلا تشتغلوا عنى بصلاة ولا بفلاح , ووحدنى واجعلونى قصدكم ومرادكم فى كل شئونكم وصلاتكم وفلاحكم , فأنا الله لا اله الا أنا فأعبدونى , وأقيموا الصلاة لذكرى , فأنا مقصودكم ومعبودكم ومرادكم وكل هذه الأوامر والعبادات لذاتى , فلا تشتغلوا بها عنى .
وهنا صح الختام , بقول الآذان , لا اله الا الله , أى لا اله سواه , معبود ومقصود فى الصلاة والفلاح ( ففروا ) من كل شئ ( الى الله([3]) ) .
وهذا أعلى مقام , أظهرته شعائر الاسلام .
فقل لى مبلغ علمك , ونهاية فهمك , أيها العاقل أى دين قد أتى بمثل تلك الشعائر , وقل لى أيها الجاحد المكابر , أبعد هذا النور اللامع , والبرهان الساطع , تقف عند سفسطة جوفاء أو هى وأفرغ من نقيق الضفادع .
ولكن كل من نادى جمادا |
|
يضيع نداؤه فى كل وادى |
هذه المعانى هى بمثابة ذرة من محيط , والا فكيف يقوى شارح على بيان ما حواه اسم الجلالة من المعانى , وهو الاسم الجامع لكل الأسماء والصفات وهو اسم الذات ( الله ) الذى بدئ به الآذان وختم به , اشارة الى أنه الأول والآخر , منه بدء الخلق واليه المرجع والمآب .
وكم من حكم علية , فى طى الشعائر الاسلامية , نسأل الله أن يقيم لها رجالا عارفين , وأنصارا عاملين , وآذانا صاغية , وقلوبا واعية , وألسنة مبينة داعية , ليظهر دين الاسلام , على جميع الأنام , كما وعدنا بذلك الملك العلام , سر قوله تعالى ( هو الذى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله([4]) ) وهو على كل شئ قدير .
(1) أ ـ عن نافع أن أبن عمر كان يقول : كان المسلمون يجتمعون فيتحينون الصلاة ( أى يقدرون أحيانها ليأتوا المسجد ) وليس ينادى بها أحد فتكلموا يوما فى ذلك , فقال بعضهم : اتخذوا ناقوسا كناقوس النصارى وقال بعضهم : بل قرنا مثل قرن اليهود فقال عمر : اولا تبعثون رجلا ينادى بالصلاة . فقال ( صلى الله عليه وسلم ) (( يا بلال قم فناد بالصلاة )) رواه أحمد والبخارى .
ب ـ وعن عبد الله بن زيد بن عبد ربه قال : لما أمر رسول الله عليه السلام بالناقوس ليضرب به للناس فى الجمع للصلاة . وفى رواية وهو كاره لموافقته للنصارى طاف بى وأنا نائم رجل يحمل ناقوسا فى يده : فقلت له : يا عبد الله اتبيع الناقوس , قال ماذا تصنع , قال فقلت : ندعو به الى الصلاة . قال أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك ؟ قال : فقلت له بلى قال تقول :
الله أكبر الله أكبر , الله أكبر الله أكبر . أشهد أن لا اله الا الله أشهد أن لا اله الا الله , أشهد أن محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله , حى على الصلاة حى على الصلاة , حى على الفلاح حى على الفلاح , الله أكبر الله أكبر لا اله الا الله . ثم استأخر غير بعيد ثم قال : تقول اذا أقيمت الصلاة :
الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا اله الا الله أشد أن محمدا رسول الله , حى على الصلاة حى على الفلاح قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة الله أكبر الله أكبر لا اله الا الله . فلما أصبحت أتيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأخبرته بما رأيت فقال ( انها لرؤيا حق ان شاء الله فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت فليؤذن به فانه اندى صوتا منك ) قال فقمت مع بلال فجعلت القيه عليه ويؤذن به قال فسمع بذلك عمر وهو فى بيته فخرج يجر ردائه يقول : والذى بعثك بالحق لقد رأيت مثل الذى أرى قال فقال النبى ( صلى الله عليه وسلم ) ( فلله الحمد ) رواه أحمد .
(2) سورة النساء 4 / الآية 82 .
(1) يشير الى قوله تعالى (( ومن كل شئ خلقنا زوجين لعلكم تذكروا ففروا الى الله لكم منه نذير مبين )) سورة الذرايات 51 / الآيتان 49 , 50 .