لفظها الله أكبر , وحكمها أنها ركن من أركان الصلاة , وبتركه تبطل الصلاة , وأما حكمتها فهى فوق الحصر ادراكا , وفوق البيان وصفا وتقديرا , وهى حد بين حالتين , وبزرخ بين بحرين ليس لهما من قرار , وهى خروج من حل مباح الى حرم الكريم الفتاح , فهى تحرم ما كان حلالا من القوال والأعمال ( التى لا تنطبق على ما تحويه الصلاة , فتحرم الكلام مع الخلق والأعمال الدنيوية البشرية كالمعاملة والأكل والشرب وغير ذلك , مما هو معلوم لعلماء الأحكام ومدون فى كتب الشريعة وأحكام الدين .
ولسنا هنا بصدد بيان شئ من ذلك , وأنما قد خصصنا هذا الكتاب لبين الحكمة والمراد من أوامر رب العباد , فحكمة افتتاح الصلاة بتكبيرة الاحرام هى ترك جميع المخلوقات , وتصغير كل الكائنات , واخراج كل ما هو فى قلب المصلى من الموجودات , حتى يفرغ قلبه لمواجهة المعبود جل جلاله , وقد سن الله المصطفى عليه الصلاة والسلام تكرار التكبير فى الركعة الواحدة الى خمس تكبيرات , لكل تكبيرة منها حكمة ومعنى عند أهل الحكمة والأسرار , الذين يرون بأعين قلوبهم , وأبصار أرواحهم , وكل تكبيرة من التكبيرات لطرد خاطر من الخواطر الشاغلات التى تهجم على قلب المصلى من البواعث النفسية والشيطانية , وليس للبواعث نهاية , فهى حرب للشيطان ودفاع يسره الرحمن للانسان ليدفع به كيد الوسواس الخناس , الذى يوسوس فى صدور الناس .
وحيث أن الخواطر لا تنتهى , والبواعث لا تنقضى , فتكون حكمة التكبير لا نهاية لها أبدا , ومن اعظم فوائدها وأجل شئونها , وأهم حكمتها دفع الشبهات القلبية , فى التفكر فى الذات العلية , فكلما خطر خاطر على القلب يشبه المعبود جل وعلا بأى حال من الأحوال , أو بأى ذات من الذوات نطق اللسان قائلا الله أكبر من هذا التشبيه وذلك التمثيل .
والخواطر هنا لا نهاية لها , فهى من تجسيم بالحس , الى تصوير بالمعنى الخيالى الى تفكر بالفكر , والى تعقل بالعقل والفؤاد , الى سياحة بالروح الى محو الوجود الى تبديل الملك والملكوت بغير حقيقتهما وكل ذلك أغيار والله أكبر من كل تصوير ( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ) فتكبيرة الاحرام واخواتها فى الصلاة طرد كل وارد عن القلب يشبه ذات الله للمصلى الذى واجه ربه فى صلاته , وكل تصوير يهجم على القلب فى الصلاة يدفعه المصلى بتكبيرة تمحو هذه التصوير وهذا التفكير حتى ينتهى الأمر بالمصلى الى الاقرار باقتناع سر قوله تعالى (( ليس كمثله شئ)) وهى لاتفارق الانسان ما دام فى جهالة انسانيته , وظلام بشريته , محاط بالكون والوجود الباطل , ولن يفارق ذلك أبدا , وعلى هذا يكون الجهاد الأكبر مستمرا , وليس له الا المعين جل جلاله , وهو من كل موجود أكبر , بلا حدود ولا تصور , ويكون عند ذلك الجهاد فى الله بعد الجهاد فى سبيل الله , قال تعالى (( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا)) .
فحكمة التكبير أمر خطير ، له شأنه وعظمته ، فهو حرب للحس والنفس والشيطان وحرب لخواطر الخيال والوهم ، والعقل والفكر والفؤاد ، حرب لتقلب القلب بالبواعث والواردات ، ودفع الشهوات المبنوية والمعنوية ، وللرغبات الدنيوية والأخروية ، فكلما هجم على القلب شاغل من آباء أو أنباء ، أو اخوان أو أزواج أو عشيرة أو أموال أو تجارة أو مساكن أو مجد أو شرف أو رئاسة أو ولاية ، أو أى مقصد من المقاصد ، أو أى رغبة من الرغائب ، يكون دفعها ومحوها بقول المصلى الله أكبر الله أكبر .
لأن كل شئ فى الموجود يشغل المصلى عن الله فهو عدو وجحيم ، وحقير وضغير والمراد هو العلى الكبير ، والانسان هو مطلوب الله من جميع العوالم ، فوجب على المصلى أن يفرد الله بالقصد دون سواه ، فوضع الله تعالى له صيغة التكبير ليدفع بها كل الأشياء ، حتى لايكون فى قلبه الا رب الأرض والسماء .
وبالاجمال فان حكمة التكبير للاحرام , وحالة الركوع والسجود والرفع منه دوافع الهية أعطاها الله للمصلى ليددفع بها عن نفسه شر الأعداء الملكية والملكوتية , وشر الشرك والشك والظن والقنوط , ومحبة غير الله والركون الى سواه , والميل عن رضاه .
فالتكبير اذا خرج من القلب محا الغيرية , وأشرقت به شمس الحق جلية علنية , وأذابت ثلج الخيالات الكونية , حتى يرى المصلى وجه ربه فى صلاته حين يناجيه ويخاطبه ويناديه .
التكبير وما أدراك ما التكبير , وهو تعظيم اللطيف الخبير , عن التشبيه والنظير , والقريب والبعيد , والضد والند , والمطلع والحد , والفوق والتحت , والجهة والأين والبين , وتنزيه الواحد الأحد , عن الزوجة والولد , والأصل والفرع , والأرواح والحلول والاشراق والأفول .
فهو أول بلا بداية , وهو لآخر بلا نهاية , وهو خلاق كل شئ , ولم يخلق من أى شئ , لأنه لو كان مخلوقا لاحتاج الى خلاق , والخلاق الذى يخلقه يحتاج الى خلاق ثانى , والثانى الى ثالث , والثالث يحتاج الى خلاق رابع وهكذا يتسلسل الخالقون بلا نهاية و والعقل والبديهة لا يحكمان بذلك البطلان , ولا ينتهيان الى هذا البهتان
فتكبيرة الاحرام ركن متين , من عبادة رب العالمين , فرضها الله بذاته , خاصة بأسمائه وصفاته , لا يشاركه فيها أحد , ولا اشتقاق لها من عدد , لأنه فرد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد .