اقتضت حكمة الوجود فى كل الأنواع , وفى جميع العوالم بأسرها من جمادية ونباتية وحيوانية , مبنوية ومعنوية , ان لها وفيها نوع أرقى وحقيقة أعلى وأسمى , والنوع الانسانى فوق جميع الأنواع تشريفا وتكريما , فلابد له من حقيقة منه . تسمو على حقائقه , ونوع يسوده , من أنواعه وفرد يعلوه من أفراده , كما هى سنة الموجودات والأنواع , واننا نرى فى الأسرة الواحدة فردا يسودها وفى المدينة قائدا يسوسها , وفى الشعب سيدا يحكمه , وفى الأمم جميها أمة تكون ذات سيادة , وسيدها يكون سيدا للكرة الأرضية بأسرها .
حكم الهية , وأسرار ربانية , وآيات اشارية تشير الى ظهور الوحدانية , فى العوالم الملكية والعوالم الملكوتية .
ولما كان أرقى أنواع الانسان هم الأنبياء والمرسلين , كان لابد لهم من ذات تسودهم وفرد يقودهم , وامام يتقدمهم , فشاءت الذات العلية , والحضرة الالهية أن تختار فردا وتصطفيه , وهى ذات سيدنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم أبرزها الحق جل جلاله قبل خلق أى موجود حكمة الظهور , وسر اشراق النور , لأن كل مظهر لابد له من علم يظهر فى مقدمته .
فكان علم الموجودات الذى ظهر قبل كل الكائنات , هو سيد البريات , وامام أهل الأرض والسموات , ترجمان الحق للخلق بدءا وختما , وهو العبد الذاتى الذى لا يتقدمه عبد , وكل العبيد من خلف ذاته واقفون .
واثق الله الأنبياء له بدءا , وأخبرنا بذلك فى القرآن قائلا : (( واذ أخذ ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة , ثم جاءكم من كتاب وحكمة , ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه , ثم قال أقررتم وأخذكم على ذلكم أصرى قالوا أقررنا : قال فأشهدوا وانا معكم من الشاهدين([1]) )) .
ثم أبرز فى عالم الظهور النوع الانسانى , وأظهر فى كل دور من أدواره رسولا أو نبيا قائدا لهذا الدور , فكانوا جميعا كطلائع مبشرين به ومنذرين من يكذب به .
لأن من أنكر على القائم برسالة الحاكم , فقد أنكر على نفس الحاكم , ومن عصى أمر الرسول , فقد عصى أمر المرسل له , قال تعالى : (( من يطع الرسول فقد أطاع الله([2]) )) ابتدأ دور الرسالة بأبينا آدم أبى البشر , واختتم بسيد العالمين وامام المرسلين سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام .
ولما كان هو الخاتم الذى تمت به أدوار التعليم المناسب لكمال البشرية , وحاجة الانسانية وكانت به النجاة من الأخطار الكونية , والفتن الدنيوية , وبه نوال السعادة الاخروية .
لذلك وجب على كل عبد مكلف بالعبودية أن يعترف برسالته ويصدق بما جاء به من عند الله لينال النجاة .
فالشهادة له بالرسالة هى قبول تعاليمه والعمل بها , والسير على منهاجها , وهى السلام لجميع الانام , وهى الفوز العظيم فى الدنيا والآخرة , وهى محاب الحق جل جلاله التى وضعها لصلاح عباده , فمن تركها خسر حياته فى الدنيا والآخرة ومن تمسك بها كان من الفائزين .
فحكمة تشريع الشهادة لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة هى قبول التعاليم التى جاء بها الذكر الحكيم من الحكيم العليم جل جلاله .
ومتى قبل الانسان وشهد واعترف وآمن وصدق بهذه الرسالة وعمل بارشادها وتعاليمها عاش فى هذه الدنيا سعيدا سالما من جميع الكروب والشقاق والنفاق , لأنها رسالة الصدق والاخلاص والاستقامة والسعادة .
وليس للبشر سواها من طريق للنجاة , لأن الذى وضعها وبعث بها هذا الرسول هو الذى خلق البشرية وصور الانسانية .
وهو أعلم بصلاحها منها , وأعلم بنجاتها من هلاكها .
فالشهادة لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة هى أساس النظام , وقانون الأمن والسلام , اذا لم تعد الانسانية الى الاعتراف بهذا الرسول الأمين أنه هو المنقذ الوحيد , وتشهد له بالقيادة العالمية , وتنفذ تعاليمه الالهية , ومشاريعه الربانية على شعوبها ودولها وأممها , انهارت دساتيرها , ودمرت نظمها وهلكت رجالها .
وهاهى ذى الآن على شفا جرف هار , الحرب تهدد كيانها , والاختلاف ينخر فى عظام وحدتها والشقاق يفتك بالألفية بين بنيها , ولا يعود للأمم النظام , وللأرض السلام الا بالشهادة للمصطفى عليه الصلاة والسلام بأنه نبى الختام , وهذه الشهادة هى قانون الفلاح , والطريق الموصل الى النجاح , وهى الحصن الذى يتحصن به الانسان فى دار الآخرة دار البقاء , لأن الآخرة دار لكرام وشرف ونعيم للمطهرين , ولا طهارة الا بالاعتراف هنا بالشهادة المحمدية , والعمل بسنته المرضية , وهى التى تطهر النفوس من نجاساتها , وتزكيها من رجسها وفسوقها , لتصلح للدخول فى دار الاكرام والانعام , اذا لم تتطهر من نجاساتها ومنكراتها , دخلت دار الفاسقين ونار المعذبين , وجحيم المكذبين , لأنها لا تصلح أن تكون مع القوم الصالحين .
فالشهادة لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ليست كلمة تقال , ولكنها أعمال وأحوال وأخلاق وآداب وسير على الصراط المستقيم الموصل لرب العالمين مع النبيين والصدقين والشهداء والصالحين فى مقعد صدق عند مليك مقتدر ونوال الفوز العظيم فى دار النعيم , والفوز بالخطوة الكبرى أبد الآبدين ودهر الداهرين , وقد قال فى وصفها بعض العارفين :
على نفسـه فليبك من ضاع عمـرهوليس له فيهـا نصـيب ولا سـهم |
فهى شهادة الفلاح والنجاح والسعادة الابدية والدرجات العلية والطهارة القدسية , والمقامات العبدية اللدنية .
منحنا الله التحقيق بها حتى نشهدها حق شهودها عيانا لا بيانا ورؤية لا سماع رواية كما قال سيد العارفين وأمام الوارثين فى هذا العصر سيدنا السيد محمد ماضى ابو العزائم .
رأيتـك كشـفا لا سمـاع روايهبحجة ( فيـكم ) فاشـهدن مشروبى |
(( فيكم )) : وفيكم رسول الله الآية